تونس والجزائر: نتائج انتخابات متشابهة واختلافات سياسية عميقة

28 أكتوبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

شهدت تونس والجزائر انتخابات رئاسية لم تفصل بينهما سوى أسابيع قليلة. ورغم اختلاف التراث السياسي في كلّ من البلدَين، كانت النتائج متقاربةً إلى حدّ التماثل. فاز الرئيسان عبد المجيد تبّون وقيس سعيّد بنسب متقاربة، كما أن نسبة الإقبال كانت متقاربة. أقبل ما يناهز ربع الناخبين على صناديق الاقتراع، فيما اختار ثلاثة أرباعهم العزوف لأسباب عديدة.
تذهب الدراسات السياسية الراهنة إلى أن العزوف، حتى لو لم يكن مقاطعةً واعيةً ومقصودةً، هو تعبير عن مشاركة سياسية، أو كما يقول بعض الخبراء أيضاً، مشاركة من نوع آخر.
كانت نسبتا الإقبال في البلدَين ضعيفة، ما لا يعود إلى العزوف الديمقراطي الذي شهدته البلدان العريقة ديمقراطياً، بل أقرب إلى عزوف شمولي، أي سلوك سياسي ناجم تحديداً من انغلاق الفضاء السياسي ومحدودية القدرة في أن يمثّل الانتخاب تغييراً للنخبة السياسية، أو حتّى مُجرَّد تغيير للخيارات السياسية. ثمّة شعوب اطمأنت إلى ديمقراطيتها باعتبارها راسخة القدم، فالتفت شبابها إلى مسائل ذاتية حميمية. لم يعد لديهم مهمّاً أن يناضلوا بأصواتهم أو احتجاجهم، سواء من خلال مظاهرة أو اعتصام، من أجل نيل حقوقهم أو ليسيجّوا بأظافرهم وجلدهم مساحة الحرّيات الفردية. هذه المسائل كلّها غدت أكثر من قناعة، بل مسلّمات. يتّخذ الاحتجاج هناك مضامين أخرى على غرار النضال من أجل ألا يداس الحلزون أو لا تقلع أشجار الغابات، أو من أجل أن تحظى القطط بحياة كريمة.
لم تعد الثورات الديمقراطية واردةً هناك، فللنضال عناوين أخرى، وهي لا تقل بأساً ونبلاً عن المعارك الديمقراطية كلّها، التي تخاض في مجتمعات أخرى من أجل أن يقول شابّ كلمةً حرّةً من دون أن يخشى إيقافه أو تعذيبه. لذلك أثارت نسب الإقبال الضعيفة في الانتخابات التي شهدتها بلدان كالجزائر وتونس عديداً من الأسئلة، في وقت سارعت فيه أنظمتها إلى البرهنة أن ثلاثة أرباع الجمهور الانتخابي آثر عدم الانتخاب لأنه اطمأنّ إلى أن بلدهم في أياد أمينة، وأنه لا جدوى من الذهاب إلى صناديق الاقتراع. الصمت علامة الرضا، لذلك لاذوا بالصمت لأن لا شيء يحفّزهم إلى المشاركة الانتخابية.
لكن علينا أن نعترف أيضاً أن العزوف الانتخابي لم يبدأ منذ هذا الخريف الذي شهدت فيه الجارتان انتخاباتٍ رئاسيةً. ففي الجزائر وتونس كانت نسب المشاركة متقاربة، رغم اختلاف تاريخ البلدَين وعلاقة الدولة بالنُّخَب. حين لا يهبّ الناس إلى صناديق الاقتراع فإنهم يائسون تماماً من أن يكون لفعلهم الانتخابي جدوىً سياسيةٌ. حالة الإحباط المملّة والمستفحلة، فضلاً عن غياب الثقة في الانتخاب وغياب البدائل الحقيقية، دفعتهم إلى المكوث في بيوتهم يوم الاقتراع. أمّا في الجزائر فإن الأمر، وإن يظلّ مشابهاً لما جرى في جارتها تونس، تظلّ العناصر المُحدِّدة لهذا العزوف أو لتلك النتائج، متضمّنةً بعض الخصوصيات اللصيقة بتاريخ البلاد الراهن. إن رُهاب الانتخابات التي أفضت بشكل ما إلى العشرية السوداء، التي تقاتل فيها الإخوة، قد ربطت الانتخابات بالعنف والفوضى.

حين لا يهبّ الناس إلى صناديق الاقتراع فإنهم يائسون تماماً من أن يكون لفعلهم الانتخابي جدوىً سياسيةٌ

لا يمكن في مثل هذه المشاعر التي شكّلت مخيالاً انتخابياً يعتقد معه التونسيون الذين لم يقبلوا على الانتخابات، أن رجلاً قوياً مسك البلاد، وهو لا يستحقّ أن يُنافَس. فلا أحد قادراً على منافسته، ولا على إزالته ديمقراطياً أيضاً. كلّما صمت الناس (وتوهمنا أنهم صمتوا صمت الراضي) فاجأتنا الوقائع بشكل مغاير تماماً عن ذلك الوهم المتسرّع. تميل الشعوب التي تصمت طويلاً إلى الانتفاض بشكل مفاجئ وعنيف. عرفت الجزائر خلال الثمانينيّات أحداثاً عنيفةً سرعان ما التفّ عليها، وظلّت رغبات الناس في التغيير موؤودةً. ابتُكِر مشهدٌ سياسيٌّ بديلٌ يطمس ما سيقع، وظلّت صناعة السياسة ثابتةً هناك خارج المشهد كلّه، الواقع أمام أعيننا. أمّا تونس فعرفت في الفترة ذاتها توتّراتٍ سياسيةً أدّت لاحقاً إلى تغيير من داخل النسق السياسي. ظلّ زين العابدين بن علي يتوهّم أنه "صانع التغيير"، في حين ظلّت ممارساته السياسية لا تختلف عن سابقه، الحبيب بورقيبة. النسق السياس ظلّ ثابتاً ضمن نُخَب تستقطبها مختلف أشكال الزبونية السياسية التي تراكمت. وهو أمر مختلف عن الجزائر التي استطاعت أن تفرمل التغيير، طوراً بالريع النفطي وطوراً آخرَ بأسطرة التحرّر الوطني، ورهنه وديعةً للمؤسّسات الصلبة عقلاً أعلى فوق الدولة والشعب.
لا ندري إن كانت الشرعية الديمقراطية التي تشكّلت بعد الانتخابات قادرةً تماماً أن تجدّد الشرعية، ولكن يبدو أن الهيمنة (بالمعنى الفيبّري) ستتكفّل بفرض الأمر الواقع. لا تترسّخ الأنظمة في البلدان العربية من خلال المنجز التنموي أو الديمقراطي، بل من خلال لعبة "ألوان مان شو"، خصوصا إذا طالت.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.