تونس وشبح العُزلة الداهم
في نظام العلاقات الدولية الجديد، لا تكتسب الدول هويتها من خلال وجود شعب، وقيامها على رقعة جغرافية مخصوصة، واحتكامها إلى منظومة قوانين لإدارة الشأن العام فحسب، بل تحقّق وجودها وتثبت كيْنونتها أيْضا من خلال ترتيبها علاقاتٍ تفاعليةً مع الدول الأخرى في مختلف المجالات الحيوية، ومن خلال اعتمادها دبلوماسية فعّالة، متعدّدة الأبعاد، واحترامها المواثيق الدولية والمنظومة الحقوقية الكونية، وحرصها على الانخراط في مسارات التحديث السياسي وبناء دولة المواطنين. وكلّما كانت السلطة الحاكمة في بلدٍ ما ميّالةً إلى احترام الدستور، وتأمين التداول السلمي على السلطة، وإعلاء حقوق الإنسان والحريات العامّة والخاصّة، كانت لها حظوة معتبرة على الصعيدين، الإقليمي والدولي. أمّا التنكّر للمعاهدات الدولية والمنظومة الحقوقية أو النكوص عنها بسبب صعود قوى شعبوية أو استبدادية أو أحادية إلى سدّة الحكم، فيؤدّي، غالبا، إلى عزلة السلطة الشمولية الحاكمة على المستوى الدولي. وتواجه تونس، بحسب مراقبين، شبح العُزلة الداهم منذ أعلن رئيس الجمهورية، قيس سعيّد، في 25 يوليو/ تموز الماضي، التدابير الاستثنائية التي جمّد بموجبها جميع أشغال البرلمان، وحلّ الحكومة، وهيئة مراقبة دستورية القوانين، ونصّب نفسه نائبا عامّا، وألغى أبوابا من الدستور، وجمع بين يديْه السلطات الثلاث، وأدار النظام العام بالمراسيم. وللعزلة الدولية الشاملة التي توشك أن تُطبِق على البلاد تجليات شتّى وتداعيات عدّة.
لم تجد التدابير الاستثنائية/ الشعبوية التي أعلنها سعيّد سوى تأييد محتشم من بعض الدول العربية. أمّا دوليا، فدعت منظمات حقوقية وازنة (الأمم المتحدة، مجموعة السبع، الاتحاد الأوروبي منظمة العفو الدولية، منظمة المجتمع المفتوح…) الرئيس التونسي إلى التراجع عن التدابير الأحادية التي أقدم عليها، والسماح للبرلمان باستئناف نشاطه. وفي إشارة إلى أزمة الديمقراطية التونسية، قال نائب المتحدث باسم الأمم المتحدة فرحان حق: "يجب حل جميع المخاصمات والخلافات عبر الحوار .. والمنطقة متقلّبة جدا، ولا يمكن لها أن تتحمّل المزيد من الاضطرابات". وبخصوص اقتحام قوات أمن تونسية مكتب قناة الجزيرة وغلقه من دون إذن قضائي، قال "نشعر بالارتياع من هذه التقارير، ونأمل يأن يقوم جميع الصحافيين بعملهم، بمن فيهم صحافيو الجزيرة، من دون مضايقة، وأن يتم احترام حرية الصحافة". فيما صرّحت المتحدثة باسم مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان مارتا هورتادو بأنّ "الوضع في تونس يثير القلق، ونأمل بالحفاظ على كل التقدّم الذي تم إحرازه على مدى السنوات العشر الماضية في ما يتعلق بالإصلاحات الديمقراطية، وألا يحدث تراجع بأي شكل". وفي بيان بشأن تونس، دعت مجموعة السبع إلى ضرورة العودة إلى نظام دستوري، يضطلع فيه برلمانٌ منتخبٌ بدور بارز، وتنظيم حوار شامل بشأن الإصلاحات الدستورية والانتخابية المُقترَحة، وأن يتمّ خلال هذا المسار الالتزام التام باحترام الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية لجميع التونسيين وباحترام سيادة القانون.
أوروبيا، قال جوزيب بوريل فونتيليس، الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية: "لا يمكن أن يظل البرلمان التونسي مغلقا إلى أجل غير مسمّى". وفي قرار لافت للنظر، أعرب أعضاء البرلمان الأوروبي عن قلقهم العميق من مَرْكزة السلطات بشكل كبير في يد الرئيس قيس سعيّد، ودعوا إلى احترام سيادة القانون، والمحافظة على الدستور والإطار التشريعي واستئناف النشاط البرلماني، وضرورة استعادة الاستقرار المؤسسي والديمقراطية الكاملة في أقرب وقت ممكن، واحترام الحقوق والحريات الأساسية، وأن تعلن السلطات القائمة خريطة طريق واضحة للعودة إلى العمل الطبيعي للدولة. وتم تبني هذا القرار بأغلبية 534 صوتا مقابل اعتراض 45 وامتناع 106 نواب عن التصويت.
الجهود الدبلوماسية الضاغطة على النظام في تونس لم تجِدْ بعْدُ التجاوب المأمول، فلم يتمّ إيقاف العمل بحكم الاستثناء، ولا بسلطة المراسيم
وطالبت دول وازنة (الولايات المتحدة، ألمانيا، فرنسا، بريطانيا ..) قيس سعيّد بمحاورة مخالفيه السياسيين، واحترام المؤسسات المدنية والهيئات التمثيلية المنتخبة، والحريات العامة والخاصّة، والعودة سريعا إلى المسار الدستوري، واستئناف مشروع الدمقرطة. وفي مسْعى إلى استئناف المسار الديمقراطي، أرسلت الإدارة الأميركية عدّة مبعوثين إلى قصر قرطاج، وحثّت السلطة الحاكمة على العودة إلى الإطار الدستوري، المؤسّسي، واحترام الحريات العامة والخاصّة، وتسقيف (وضع سقف زمني محدد) التدابير الاستثنائية. وأكّد السفير الأميركي دونالد بلوم، مرارا، متانة الشراكة بين البلدين، وأنّها تأخذ في الاعتبار، أساسا، إعلاء القيم الديمقراطية، وبناء دولة القانون والمؤسسات. وفي سياق متّصل، أعرب نوّاب فى الكونغرس خلال جلسة استماع بعنوان: "تونس: دراسة حالة الديمقراطية والخطوات التالية لسياسة الولايات المتحدة"، عن قلقهم البالغ بشأن التدابير الاستثنائية/ الأحادية التي أقدم عليها الرئيس سعيّد، وطالبوا باستئناف العمل البرلماني، والديمقراطية التمثيلية، والعودة إلى المسار الدستوري فوْرا.
والواقع أنّ هذه الجهود الدبلوماسية الضاغطة على النظام الحاكم في تونس لم تجِدْ بعْدُ التجاوب المأمول، فلم يتمّ إيقاف العمل بحكم الاستثناء، ولا بسلطة المراسيم، ولا بمحامل الأمر الرئاسي عدد 117، ولم يتم الفصل بين السلطات، ولا استئناف المسار الديمقراطي. والمضيّ في تجاهل دعوات بنّاءة، صادرة عن جهات حقوقية، ودوْلية وازنة، تلحّ على ضرورة استئناف المشروع الديمقراطي، يجعل تونس في مهبّ عزلةٍ دبلوماسيةٍ، واقتصاديةٍ، وسياسيةٍ ضاغطة، لها عواقب وخيمة على الاجتماع التونسي كله.
من الناحية السياسية/ الدبلوماسية، تراجع حضور تونس في المحافل الدولية (قمّة المناخ مثالا)، وأفل نجم الديمقراطية الناشئة باعتبارها علامة واسمة للبلاد، وأضحت تونس مثالا لثورة مهدورة وديمقراطية مبتورة. ومن المفيد الإشارة، في هذا الخصوص، إلى أنّ استمرار التدابير الاستثنائية إلى أجل غير معلوم كلّف تونس خسارة تنظيم مؤتمرات دولية (قمّة الفرنكفونية، المؤتمر الدولي للصحافة ..) كان بالإمكان أن تساهم في إشعاع البلاد، وأن تتيح فرص إبرام شراكات اقتصادية وثقافية ناجعة مع دول أخرى. كما لم تتمّ دعوة تونس للمشاركة في القمّة العالمية للديمقراطية التي أشرف عليْها الرئيس الأميركي جو بايدن (9 – 10 ديسمبر/ كانون الأول2021). وذلك كلّه بسبب عدم الاستقرار السياسي، وغيْبة الإحساس باليقين وعدم وضوح الرؤية للمستقبل، والتراجع المريع لمشروع الدمقرطة في تونس بعد 25 يوليو/ تمّوز2021.
سوء الإدارة السياسية للأزمة واستدامة أحكام الاستثناء عَزَلا البلاد إقليمياً ودولياً، وأثّرا سلباً على معاش التونسيين وإنتاجهم
ومن الناحية الاقتصادية، ساهمت التدابير الاستثنائية في تراجع الترتيب السيادي لتونس، بحسب بعض وكالات التصنيف الائتماني الدولية، ما جعل خروج تونس إلى السوق العالمية للحصول على قروض مُيَسّرة وطويلة المدى أمرا صعبا. وبعثت التدابير الانعزالية رسائل سلبية إلى المستثمرين الأجانب، مفادها أنّ الوضع في تونس متوتّر، والبلد غير آمن، والمستقبل غير واضح، وهو ما دفع رجال أعمال تونسيين وأجانب إلى غلق مصانعهم، وتهريب أموالهم إلى الخارج، ومغادرة البلد. وفي السياق نفسه، تراجع حجم المساعدات الموجّهة من دول أجنبية إلى تونس بسبب عدم وجود برلمان، ولأنّ الحكومة الجديدة لا تحظى بشرعية واسعة. وتكفي الإشارة في هذا الخصوص إلى أنّ المساعدات الأميركية الموجّهة إلى تونس تراجعت من 221 مليون دولار سنة 2020 إلى 51 مليون دولار سنة 2021، بسبب الانحراف المشهود عن الدستور ومسار الدّمقرطة. وانعكس تعثّر الدبلوماسية الاقتصادية سلبا على باعثي المشاريع الاستثمارية وأصحاب المؤسسات الإنتاجية. يقول ياسين قويعة، رئيس المنظمة الوطنية لرواد الأعمال، لإذاعة تونسية خاصّة: "وضعية المؤسسات، الصغرى والمتوسّطة، أصبحت كارثية اليوم، مع وجود 460 ألف مؤسسة على حافة الإفلاس"، وأكد أن حوالي 130 ألف مؤسسة أغلقت أبوابها، وقال إن "رائد الأعمال وصاحب المؤسسة وجد نفسه وحيدا في هذه المحنة". ومن ثمّة، فسوء الإدارة السياسية للأزمة واستدامة أحكام الاستثناء عَزَلا البلاد إقليميا ودوليا، وأثّرا سلبا على معاش التونسيين وإنتاجهم.
ختاما، حرّرت الثورة العقل السياسي التونسي، وخرجت بالبلاد من حيّز الأحادية إلى رحاب التعدّدية، ورسّخت تقاليد التداول السلمي على السلطة، ومكّنت لتونس ضمن نادي الديمقراطيات الناشئة. وجلس قيس سعيّد على كرسيّ الرئاسة بفضل صناديق الاقتراع ومشروع الدمقرطة، وبفضل أصوات ناخبين كثيرين انتصروا له في الدور الثاني من رئاسيات 2019، والذين أصبح الآن يعتبرهم خصومه، وينعتهم بنعوتٍ دنيّة. ولكي يفكّ عن البلاد إسار العزلة، كان الأحرى بالرئيس قيس سعيّد، بدل الذي أعلنه أول من أمس، 13 ديسمبر/ كانون الأول، أن يمارس نقدا ذاتيّا، وأن يعود إلى قواعده الشعبية الحقيقية التي صوّتت له بكثافة في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، وينصت إلى مطالب الناس الملحّة بتحقيق الانتقال الاقتصادي، والعودة إلى المسار الدستوري واستئناف المشروع الديمقراطي. وذلك ممكن من خلال المبادرة بإنهاء التدابير الاستثنائية، والإعلان عن تنظيم حوار شامل، لا يقصي إلا من أقصى نفسه، ويجمع مختلف الفاعلين السياسيين، والمنظمات الحقوقية والنقابية الوازنة بغاية بلورة تصوّر تشاركي للخروج من الأزمة، وتعديل القانون الانتخابي في إطار مؤسسي، والإعلان عن تنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية سابقة لأوانها في أقرب الآجال، على نحو يجعل الرؤية واضحة، ويرفع الإحساس بالخوف واللايقين من القلوب، ويخفّف من حدّة التوتر بين المعارضة والسلطة القائمة، ويبعث رسائل إيجابية إلى الداخل والخارج، ويسمح لتونس أن تستعيد، ولو نسبيّا، صورتها الديمقراطية في المشهد الدولي. وإن لم يحصل ذلك قريبا، فإنّ البلاد توشك أن تصبح دولة فاشلة، معزولة، مفلسة.