ثنائيات الإصلاح الأردني ومفارقاته
أقرّ مجلس النواب الأردني بعد نحو 60 ساعة من النقاش الذي استغرق تسع جلسات 30 تعديلاً جديداً على الدستور، وهي تعديلاتٌ أرسلتها الحكومة، بناءً على مخرجات اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية. وكانت حصيلة التصويت 104 أصوات أيّدت التعديلات الدستورية، فيما رفضها ثمانية نواب، من أصل 112 نائباً، وقد رفض النواب من التعديلات مادةً تنص على رفع الحصانة عن النائب لغايات المحاكمة والتوقيف، وأبقوا على الحصانة لهم في أثناء فترة النيابة. وبموازاة حفاظ النواب على حصانتهم، وسّعت التعديلات المُقرّة من صلاحيات الملك عبد الله الثاني في تعيين كلّ من مدير الأمن العام وقاضي القضاة ورئيس المجلس القضائي الشرعي والمفتي العام ورئيس الديوان الملكي ووزير البلاط ومستشاري الملك، وفي قبول استقالاتهم منفرداً ومن دون توقيع من رئيس الوزراء أو الوزراء المختصين بذلك. وأقرّ النواب إنشاء مجلس للأمن القومي، يدعوه الملك إلى الانعقاد ويصادق على قراراته، وهذا التعديل لم تنسّب به لجنة التحديث، وإنما أضافته الحكومة، وهو تعديل غير ضروري في نظر كثيرين، ما دام الملك بموجب الدستور يرأس كل السلطات ومصانا من المسؤولية.
ويبقى أمام النواب مشروع قانوني الأحزاب والانتخاب، والتي سوف يمضي المجلس بمناقشتها، سلة متكاملة للتحديث السياسي. والمفارقة في إقرار التعديلات الدستورية ما حدث في الجلسة الأولى لمناقشتها من غضب وعنف، وما آلت إليه النتيجة النهائية من شبه إجماع، إذ رسم المجلس لنفسه صورة محيّرة بين مشهدي الرفض والموافقة، ومع أنّه ليس عند الأردنيين شغف بتحليل سمات مجلس نوابهم، ولا متابعة أداء أعضائه، بقدر ما عندهم رغبة جامحة بالنقد والتندر على النواب، فإن محاولة وضع إطار للعمل النيابي ومواقفه تظل أمراً صعبًا في ظلّ طبيعة البنية الاجتماعية والسياسية لمجلس النواب.
محافظون يريدون البقاء على الدولة بصيغتها الراهنة مع تغليف مواقفهم بالحرص على هوية الدولة ومقولة التوطين
للأسف، يبدو الموقف العام من الإصلاح في الأردن ملتبساً. هناك دعاة إصلاح وتحديث، وهناك دعاة إبقاء الحال على حاله. هناك محافظون يريدون البقاء على الدولة بصيغتها الراهنة مع تغليف مواقفهم بالحرص على هوية الدولة ومقولة التوطين، وهناك جماعات مجتمع مدني من قوى يسارية وليبرالية، ولهذه التأثير في الرأي العام، لكنّها لا تملك الشوكة، في مجتمعٍ يرتفع مستوى تدينه والدعوة إلى المحافظة فيه.
في الأردن ثنائيات عديدة متنافرة: الدولة والقبيلة، العدالة وحقوق الأردنيات، الهوية الوطنية والتوطين، وغيرها من مفاهيم تعكس حجم القلق والصراع الاجتماعي وغياب مشروع كبير يحسم مصائر الإصلاح والديمقراطية التي تعثرت كثيراً منذ ثلاثة عقود على استئنافها. ومع ذلك كله، هناك ارتفاع منسوب انقسام النخبة السياسية، الأمر الذي مثله النواب خير تمثيل، ففي الأردن تحديث يراه بعضهم صعب التحقق، وينهض محللون يتحدثون على الشاشات عن الدولة العميقة وصراع الأجنحة الحاكمة والقوى الضاغطة، ويغفل الكلّ عن طبيعة بنية الدولة في المشرق العربي وتضخيمها، وعن المسار العام الذي حكم تكوينها، وعن عامل الشرعية في الدولة العربية، الذي هو مختلفٌ عنه في الدولة الغربية، والذي تحدّد بالشرعية الديمقراطية التداولية، فقبل انحسارها وتعديلها أو التصويت عليها في مجلس النواب، ولاحقاً مجلس الأعيان، بدت مخرجات لجنة التحديث الملكية هي الهدف والضحية في آن. وتبدو الشعبوية عند بعض النواب ورجال السياسة هي الغاية للأسف، وبدا أنّ العقل هو الغائب الأكبر الذي سجّل غيابه لصالح العصبيات التي تغطي الفضاء العام في الأردن وتحكمه على أساس جهوي وعشائري عصبوي. وللأسف تصيب المُطالع لحالة المجتمع الأردني الدهشة؛ فثمة نخب تخشى الديمقراطية والإصلاح، وتراه مسماراً في نعش الدولة التي ورثوها، وتعاقبوا فيها وحفظ لهم صيغ حضورهم التمثيلية في الحكم، وبالطبع غنائمهم وامتيازاتهم.
الشارع الأردني أمام استحقاق إقرار خريطة طريق إصلاحية، ولكن مجلس النواب غير محترف للسياسة، فهو تمثيلي تقليدي
إنهم خصوم التقدم في الأردن ممن يتحدّثون عن الإصلاح، وحماية الملك والعرش والدولة من تغيير وجهها، هم ذاتهم يتحدّثون عن الولاء والبراء للملك، ويعتبرونه القاسم المشترك بين الجميع، وهم ذاتهم من يرفضون إرادته في الإصلاح، بتبنّي مقولة الدفاع عن حقوق الأردنيين والدفاع عن هويتهم، وهذا ما يهمسون به في ما بينهم وبين أنصارهم. ومع أنّهم لا يملكون إثباتاً على حجّتهم، إلّا أنّ الإثبات المضاد غير قادر على تعرية هذه المقولات ومواجهتها. وفي المقابل، هناك رافضون للإصلاح من دون تفسير لرفضهم، غير الغضب والتعصّب والتشكيك بالدولة والحكم ومسارها الإصلاحي. ويتغذى هذا الموقف من ضعف الثقة وتراجعها، وغياب الحكومات وهشاشة تشكيلها. ولا يمكن استرجاع موقف هذا التيار أو تعديله إلا بمشروع كبير يستعيد ثقة جمهوره ومؤيديه بالدولة، وهذا المشروع يكون في الاقتصاد أولاً، وفي إعادة تعريف الدولة دورها في حياة الأردنيين، خصوصا في الأطراف التي صحت فجأة على هيئاتٍ مستقلةٍ موازية لعمل الوزارات الخدمية، وفي تحويل صفة المواطن إلى زبون، وفي تقليل حضور التنمية من جهة الدولة في الأطراف لصالح تعزيز حضور رجال الأعمال والشركات للاستثمار ودورهم في البوادي والأطراف، من دون إحداث تغيير تنموي في حياة الناس.
تنبثق المفارق الراهنة في الشارع السياسي الأردني الذي من المفترض أن مجلس النواب الحالي يعكسه ويمثله، من أن الشارع الأردني أمام استحقاق إقرار خريطة طريق إصلاحية، ولكنه (مجلس النواب) غير محترف للسياسة، فهو تمثيلي تقليدي، لا يُقرّ ناسٌ كثيرون بأنّه يمثلهم ويعدّونه إثباتاً على الضعف والفشل، لأنّه مُخرج لقانون انتخاب سلبي، وفي ثنائية المخاوف من تبدل الواقع أو تغيير هوية الدولة، ومقولة تغيير وجهتها نحو قواعدها التقليدية التاريخية وإفقاد هويتها المستقرة حصانتها التي هي متخيلة.
في ظلّ هذا المشهد، يحضر الإعلام عاملاً ضاغطاً على النواب، تصويراً متعدّداً وكاميرات تلتقط الأخطاء وتحليلاً على الشاشات لا يوجد فيه علم ولا معرفة. لذا، فإنّ شرط الإمكان القَبلي لتطوير أيّ ديمقراطية مفقود، وشرط التحوّل السياسي غير متوفر لغياب القوى المنظمة في المجتمع. وفي ظلّ حالٍ كهذا، تبدو صعوبة مهمة رئاسة مجلس النواب التي يجب أن تصبر وتناور أكثر وتتسامى وتسمح بالنقاش، على أن يكون النقاش عقلانياً من دون اتهامات وبلاغات، لكنّ شرط اللغة التشريعية العالية مطلوب.