ثوار وثيران بين تاجر وجزّار
تقول الأسطورة الإغريقية القديمة إن تاجراً ساق بعض الثيران إلى المجزر. ولما اقترب منها الجزّار بسكّينه الحاد، هتف ثور "فلنتكاتف، ولنرفع هذا الجزار على قروننا". فردّت عليه بقية الثيران "وماذا يختلف الجزار عن التاجر الذي ساقنا إلى هنا بهراوته؟". فقال الثور الداعي للتكاتف والاصطفاف "سوف نتمكّن من التعامل مع التاجر أيضاً بعد التخلص من الجزار". وكان رد الثيران، مرة أخرى، أن هذا لن يجدي ذلك شيئًا، واتهمت صاحب الاقتراح بأنه يحاول توفير غطاء لأعدائها، وأنه نفسه جزّار، ثم رفضت فكرته.
تعبّر القصة المنسوبة للحكيم الإغريقي أيسوب (عاش في القرن السادس قبل الميلاد) عن حالة بعض النخب العربية التي لعبت مع الجماهير، وعليها، الدور نفسه الذي حاول أن يؤديه ذلك الثور المتفلسف، والذي يتلاعب بالأولويات، ويمارس عملية تدليسٍ منهجية، تسرق الوعي وتحوّل مجرى الغضب، بعيداً عن "التجار" الذين يقودون الجموع إلى سكّين الجزار.
يريد بعض هذه النخب ممارسة الدورين: التاجر الذي يسلم الرقاب للعسكر، والثور الفيلسوف، في آن معاً، وانظر إلى حالة الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013 في مصر، ستجد من "مقاولي الغضب الشعبي" الذين ساقوا الجموع إلى المقصلة من يريد أن يتقمص شخصية "الثور المنقذ" الذي يظن أن الجموع سوف تسمع كلامه، حين ينصحها، أو يقترح عليها، أن تتراصّ وتأتلف وتصطف، لكي ترفع الجزار على قرونها.
هل كان ممكناً أن تمتد يد الجزّار إلى رقاب الثيران البريئة بالسكّين الحامية، لو لم يكن هناك تاجر يسوقها، خداعاً، أو تخويفاً، ويسلمها له في المجزر؟ وليت بعضهم اكتفى بذلك، لكنه وقف متحمساً للحظة الذبح، بل واتهم الجزار بالتراخي والتواطؤ، لأنه يؤخر عملية الذبح، معلنا أن كل يوم يمر، من دون أن تفعل السكين فعلها، يهدّد بإهدار مكتسبات المجزر.
تدور الأيام، ويكتشف التاجر الليبرالي الشاطر أن سكين الجزار لم تعد تكفيها رقاب الثيران التي ذبحتها، فقط، لترتوي، فبدأ الجزار، بعد أن شعر بالملل من روتين عملية ذبح الثيران، يتحوّل إلى التجار، حين أوجس من بعضهم خيفةً، واستشعر تململاً، فماذا يفعل الذين كانوا من ضمن أدوات الذبح، سوى الاحتماء بما تبقى من ثيران حية؟
لكنهم، في اللحظة نفسها، لا يريدون التخلي عن شعورهم المريض بالتفوق والنبوغ، والمفهومية، فتجدهم، وكما قادوا الثيران المسكينة إلى الجزار، يريدون قيادتها، من جديد، في مشروع تكاتف ثوريٍّ ضد الجزار، والذهاب إلى انتفاضةٍ جماعية، تنتهي برفعه فوق القرون والفتك به.
تأمل المشهد الحالي جيداً، ستجد كثيرين ممن يريدون لعب دور الثور الناصح المثقف الذي يتوهم أنه بالإمكان التعاون مع التاجر الذي ساقهم وسلمهم للجزار، بينما كل ما يفعله هو تبرئة التاجر من جُرمه الذي لا يقل بشاعةً عما أحدثته السكين بيد الجزار.. وليت التاجر الشاطر رضي بهذه السذاجة الثورية، بل إنه يمعن في استعلائه، وادّعائه الكذوب بأنه الأوعى والأنضج والأكثر تحضّراً وإنسانية.
يدهشك تجار الدماء، حين يلبسون وجهاً إنسانياً ناعماً، ويلومون ثواراً، رفضوا أن يكونوا ثيراناً، وقرّروا معاقبة القراصنة الذين انقضوا عليهم بغتةً، ليسوقوهم إلى مجزر الدكتاتورية العسكرية مرة أخرى، بل ويساوون بين الضحايا في تركيا، والجزّارين في مصر، ويريدون أن يجعلوا "رد فعل" الناجين من المذبحة، و"فعل" مرتكبي المذبحة سواءً بسواء.
غير أن من التجار من لا يكتفي بذلك، فيذهب بعيداً جداً، حين يحرّض على معاقبة رافضي الذبح بالحماس نفسه الذي حرّض به جزاره المحبب على ذبح معارضيه.
أتخيل الآن مواجهةً بين الجزار والتاجر، أمام محكمةٍ عادلة، يتقمّص فيها التاجر شخصية المحامي المدافع عن الضحايا الذين سقطوا من الثيران، فيضرب الجزار كفاً بكف، ويسقط مغشياً عليه من الصدمة، بعد أن يصرخ: ألم تكن معي ساعة الذبح، بل ووضعت السكين في يدي، ونهرتني حين تباطأت؟
أتخيل، أيضاً، أنه لو اعتدل الميزان ومثل الجزار القاتل أمام محكمةٍ دولية، فلا بد أن الذين سلموه الضحايا، وأعطوه السكين، وصفقوا له وهو يذبح، سيكونون بجواره في قفص الاتهام.