ثورة إيران بعد أفول الآباء وإبطال السحر
بعد إشهاره رفضَ أسماءٍ دينية مهمة في الحراك اللاحق للثورة، كاد حسين الخميني، حفيدُ مؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، أن يُقتل في مدينة مشهد عام 1979 في أثناء مغامرته بدعم ترشيح أبو الحسن بني صدر في أول انتخابات رئاسية بعيد انتصار الثورة في مواجهة جمهور من المتشدّدين الدينيين المعارضين لبني صدر. إثر الحادثة، عمد الخميني الجدُّ إلى تقييد نشاط حفيده وإجبارِه على الذهاب إلى قم لدراسة الدين بعيداً عن السياسة.
ابتعد الشابُ حتى ماتَ جدّه، ليعود إليها معارضاً النظام ورافضاً الثيوقراطية. ووجه عندها بإشاعة أنه عانى أزمات نفسية أو مجنون. ثم، في عام 2003، ظهر في العراق وأجرى لقاءً مع صحيفة هولندية وَصفَ فيه نظام بلاده الإسلامي بالدكتاتوري. وقبل عودته إلى إيران، لجأ للولايات المتحدة والتقى هناك بآخر ولي عهد في المملكة الإيرانية، رضا بهلوي. وكما روى الكاتب كريستوفر هيتشِنز في مقاله "لعبة الانتظار الإيرانية" المنشور في مجلة فانيتي فير الأميركية عام 2005، أن الخميني "الشاب" أخبره بدعمه فصلَ الدين عن الدولة، وطلب منه ترتيب لقاءٍ برضا بهلوي في الولايات المتحدة بالقول: "لقد سمعت عنه جيداً. يسعدني أن ألتقي به وأتعاون معه، لكن بشرط أن يتخلى عن المطالبة بالعرش".
على عكسه، بدا ابنُ عم حسين، الحفيدُ الآخر لمؤسّس النظام، حسن نجلُ أحمد الخميني، أكثرَ التصاقاً بالنظام مع بعض البراغماتية. رغم ذلك، خاض أكثرَ من مواجهة مع التيار المتشدّد، فلم يشارك في حفل تنصيب محمود أحمدي نجاد بعد انتخابات 2009، وعُرف بانحيازه مع محمد خاتمي إلى دعم حسين روحاني أمام إبراهيم رئيسي في انتخابات عام 2013. كما استُبعِد من الترشيح لعضوية مجلس خبراء القيادة عام 2015. سبِّب القرارُ وقتئذ بعدمِ وصول حسن الخميني إلى المرتبة الفقهية الكافية للترشيح في المجلس المفترض أنه مكوّن من فقهاء الشريعة.
المفارقة أنّ المجلس نفسَه قبل نحو ربع قرن من ذلك التاريخ خرق الشرط، ليس لعضوية المجلس هذه المرّة، بل لأمر أكبر. انتخبَ "الخبراءُ" علي خامنئي عام 1989 لخلافة آية الله الخميني في منصب الولي الفقيه. مراكزُ قويةٌ داخل المجلس عملت على اختيار خامنئي، وهو لم يستوفِ الشروط ولم يصل، في أي حال، إلى "الدرجة" الفقهية المطلوبة. بذلك انقلب المجلسُ على شروطه بعد أقل من عشرة أعوام على تأسيسه. بالطبع، كان اللاعبُ الرئيس هو رئيس البرلمان حينها، علي أكبر هاشمي رفسنجاني، الذي أصبح لاحقاً رئيساً للجمهورية.
باتت أفكارُ نقد التراث، ونقدِ منظومة الحكم في إيران، أكثرَ انتشاراً من السابق
بعد سنوات، أخذ رفسنجاني نفسُه موقفاً مناهضاً لرأس الحكم، وتراشق مع خامنئي كلامياً أكثر من مرّة. بنتُه أصبحت بعد ذلك في وجه العاصفة. فائزة هاشمي سبق أن سُجنت، قبل وفاة أبيها، ستة أشهر بتهمة الدعاية ضد النظام، تواجه الآن إدانةً قضائية بالتهمة نفسها صدرت في 12 يوليو/ تموز الجاري، على خلفية تصريحاتٍ قالت فيها إنّ "رفع اسم الحرس الثوري من قائمة الإرهاب الأميركية مضرٌّ بالمصالح القومية الإيرانية". وهناك تهمة أخرى دينت بها، إهانة المقدسات الإسلامية في حديث لها عن الإسلام عُدّ خروجاً عن الدين.
وبمتابعة المسار الفكري لتغيير القناعات داخل المجتمع الخاضع للحكم الثيوقراطي، يمكن أن نرصد، من دون جهد كبير، تغييراً جذرياً حتى في القناعات الدينية، فمنذ أواسط تسعينيات القرن الماضي ظهر توجه على الجيل اللاحق لجيل الثورة يشير إلى العزوف عن الدين نفسه، أو على الأقل رفض وجوده على رأس الحكم. وباتت أفكارُ نقد التراث لعبد الكريم سروش ومصطفى ملكيان، ونقدِ منظومة الحكم لكتّاب مثل صادق زيبا كلام، أكثرَ انتشاراً من السابق. يرى بعضهم الوضع مرتبطاً بصعود خاتمي رئيساً خامساً للجمهورية. لكنّ الأمر معكوس، فصعود الرئيس الإصلاحي ناتجٌ عن نزعةٍ داخل شارع المدن الكبرى ترفض الحكم الديني.
تطوّر هذا التحول في المزاج العام للمدن الكبرى مع الوقت، وبدأ يضغط لمزيد من الحريات، مع اتساع رقعة الاحتجاجات المدنية والاقتصادية وتكرار اندلاعها. والحملة المدنية الأخيرة لنزع الحجاب تعبيرٌ عن الاحتجاج فيما يصنّف بيوم "الحجاب والعفّة" لدى أدبيات النظام. كانت حملةً واسعة وبدا أن جمهورها في اتساع. لا صلة لهذا الجمهور بمشهد الصراع بعد انتصار الثورة الإيرانية وبَدء سيطرة القوى الدينية على زمام المبادرة بعد إبعاد الخصوم من القوى اليسارية والقومية والليبرالية على مدى ثلاثة أعوام. الجيل الراهن ينتمي للأبناء أو الأحفاد الآخذين طريقهم بعيدا عن ثيوقراطية النظام وسياقه القائم على حكم رجال الدين بناء على أحقيتهم "الإلهية" في الولاية.
لهذا، منذ وصول الرئيس الجديد، تصاعدت حملةٌ مضادّة للحريات هي الأكثر تشدّداً في العقدين الأخيرين. إذ أخذت أجهزة الحكم تتعامل بحدّية وحزم وتشدّد مع الظواهر غير المتوافقة مع إيديولوجيا السلطة. يبدو الأمر خاضعاً لمتغيّر مراكز الحكم، بعدما شعرت بانحسار نفوذها في مراكز المدن الكبرى، خصوصاً في ظلّ عزوف صريح في تلك المدن عن الانتخابات. فعلى سبيل المثال، لم تتجاوز المشاركة في مراكز اقتراع العاصمة ربعَ الناخبين. لكنّ مراكز قوى النظام وأدواته، هي الأخرى، تخضع لتحولات في المصالح وتوازنات غير معهودة.
تحوّلَ الحرس الثوري خلال السنوات العشر الماضية إلى قوةٍ يمكن أن تكون المحدِدَ لخليفة خامنئي
مثلاً، تحوّلَ الحرس الثوري خلال السنوات العشر الماضية إلى قوةٍ يمكن أن تكون المحدِدَ لخليفة خامنئي. قيادات الحرس بعضُها من رجال دين، وبعضها عسكرية، وبعضها مليشياوية، وهي تمتلك زمام المبادرة بعد السيطرة على مشاريع اقتصادية عملاقة في البلاد والانخراط في شبكة علاقات مالية دولية متعدّدة الاتجاهات. إلى درجة أنّ شخص خامنئي لم يعد قادراً على فرض سطوةٍ كاملة عليها. واغتيال قاسم سليماني، قائدِ فيلق القدس، ضيّع على زعيم الدولة فرصة السيطرة المحكمة على إيقاع المؤسّسة عبر رجل شديد الولاء له. الاغتيال أراح كلاً من المؤسّسة السياسية الباحثة عن هامش أوسع، والحرس نفسه، حيث كان إيقاعه خاضعاً لتوجهات رجلٍ واحد، هو سليماني، رغم أنه لم يكن رئيس المؤسسة. فساكن منطقة باستور الطهرانية البالغ 83 عاماً استعاد نفوذَه على السلطة السياسية بدعم رئاسة إبراهيم رئيسي، القريب منه إيديولوجياً وسياسياً، لكنه لم يستعد سطوته الكاملة على الحرس بعد. هذا لا يعني أنّ خامنئي لم يعد القوة الأولى، لكن يعني أنّه محكومٌ بتوازنات صعبة. لذا يمكن أن تكون خطوةُ الدفع باتجاه رئاسة رئيسي تمهيديةً لأن يصبح الوريثَ لعرش "الفقيه".
هي وراثة المتمسّكين بالنظام مقابل الأبناء "العاقين" لمآلات الحكم. ورئيسي، المتهم بالمشاركة في إصدار أحكام الإعدام الجماعية عام 1988، ليس الوحيدَ الممثل صورةَ الأبناء "البارين" للنظام. هناك أحد أبناء خامنئي نفسه. فعلى عكس حفيدي الخميني وابنة رفسنجاني، يبرُز اسمُ مجتبى خامنئي في اتجاه آخر. النجلُ الثاني للمرشد الإيراني ذو الثلاثة وخمسين عاماً، تتحدّث عنه التكهنات بديلاً محتملاً. في يناير/ كانون الثاني من عام 2020، نشرت "فايننشال تايمز" البريطانية تقريراً تضمن ركناً عن خلفاء المرشد، تحدّثت فيه عن تأهيل مجتبى لخلافة أبيه، فالنجل حافظ على ولائه الشديد للنظام، وبنى داخل مؤسسة الحرس الثوري علاقات حاسمة، من بينها علاقة بحسين طائب، الاسم المطروح حالياً على قائمة العقوبات البريطانية بسبب التورّط في اعتقال الناشطة الإيرانية البريطانية نازنين زاغري المفرج عنها أخيراً. وكان المرشّحُ الرئاسي في الانتخابات المثيرة للجدل عام 2009 مهدي كروبي قد اتهم مجتبى بالتدخل في تزوير الانتخابات، وذلك في رسالة بعثها إلى المرشد علي خامئني.
ليس واضحاً ما إذا كانت مؤسسة الحرس الثوري قادرةً على فرض ما تريد على مجلس رجال الدين الذي سيختار خلفَ خامنئي
ومثلما أُبعِد حسين خميني عن السياسة إلى قمْ كي لا يكون خصماً لرموز الثورة الدينيين، أُرسِل مجتبى إلى قم لكن لسبب آخر، الابتعاد عن الواجهة، إثر انتقادات لأدواره في التحكّم بكانتونات داخل الحرس الثوري وجهاز المخابرات، وأيضاً كي ينافِسَ على الزعامة بعد أن يشتدَّ عودُه "فقهياً". لكنّ قم قريبةٌ من طهران، وهي التي تضع الزعفران في قدور الرز المطبوخة بالعاصمة. لذا يقول مقرّب من بيت المرشد، كما تنقل "فايننشال تايمز" في تقريرها: "لدى مجتبى علاقات جيدة مع الحرس الثوري. ورغم أنه قد لا يمتلك سلطة أبيه لكن الحرّاس لا يستطيعون الإملاء عليه". وحتى ابتعاده إلى قم لم يمنعه من أن يكون مركز اهتمام إعلامي خلال مسيرة (يوم القدس) الأخيرة بطهران.
هذا الابن المتوافق مع سياق النظام السياسي بالكامل، وذو العلاقات المؤثرة مع مراكز نفوذ داخل الحرس، سيبقى يواجه إشكاليةَ التوريث الذي قامت المنظومة بالكامل على رفضه عندما تأسّست على أنقاض نظام الشاه الوراثي. عدا عن هذا ليس واضحاً ما إذا كانت مؤسسةُ الحرس قادرةً على فرض ما تريد على مجلس رجال الدين الذي سيختار خلفَ خامنئي. إضافة إلى هذا وذاك، يمثل صعود رئيسي إلى رأس السلطة التنفيذية تحدّيا لأيّ اسم آخر، فهو الابنُ غير البيولوجي لخامنئي.
وبين ابني الآغا خامنئي، البيولوجي وغير البيولوجي، وأولاد الآخرين ممن انشقوا أو يكادون الانشقاق، يواجه النظامُ معضلةً وسؤالاً. المعضلة أنه منقسم على نفسه، وأن تعقيداته التي كانت ضامنةً دوامَه هي أيضاً ستكون سبباً في تعقيد انتقالاته. أما السؤال؛ فنظام لم يستطع المحافظة على مقبوليته في قناعات أبناءٍ لأهم بُناته ومؤسّسيه مقابلَ ابن هو في النهاية يشبه أبناء الدكتاتوريات في جمهوريات الشرق الأوسط، كيف له أن يكون مقبولاً ومقنعاً لطبقات وشرائح أخرى من المجتمع؟