ثورة تشرين في العراق وخطاب الكاظمي
مرّت، قبل أيام، الذكرى الثانية لاندلاع ثورة تشرين (أكتوبر/ تشرين الأول 2019) التي خرج فيها شبان العراق وشاباته في تظاهرات عارمة لإسقاط العملية السياسية وأحزابها التي جاءت مع الدبابة الأميركية عند غزو العراق عام 2003. وقد احتفل العراقيون بالمناسبة في مدن وسط العراق وجنوبه، رافعين صور مئات الشهداء الذين سقطوا طوال أشهر المواجهات على أيدي القناصين والمليشيات التابعة للحرس الثوري الإيراني ورئيسه الذي اغتيل قاسم سليماني. وقبيل الانتخابات التي أجريت الأسبوع الماضي، لم يتردّد رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، ولا مستشاروه والتشكيلات الجديدة المنتحلة، في الكلام باسم ثورة تشرين، وأنه خرج من رحمها وحقق مطالبها. أول ادعاءاته أنه لا ينتمي للأحزاب الموجودة في العملية السياسية، وهذا غير صحيح، لأنّه واحدٌ من أبناء العملية السياسية ورئيسٌ للمخابرات في حكوماتها ويأتمر بأوامرها، ومنها مشاركة الجهاز الذي ترأسه سنوات في قمع العراقيين وسجنهم وقتلهم، وكان من أعضاء اللجنة المشكّلة للتحقيق في قتل المتظاهرين في ولاية سلفه، عادل عبد المهدي، وممن أشرف على عمليات القمع.
ليس ذلك فحسب، بل يدّعي الكاظمي أيضا ومستشاروه قيامه بإصلاحات كثيرة، وإنجاز مشاريع البناء وافتتاح مشاريع أنجزت في عهده، وهو ما تنفيه الحقائق العنيدة على الأرض. قراءة بيان خاص بالإنجازات التي يعدّدها مستشاروه عبر الفضائيات ومكتبه الإعلامي تظهر تمثيليات ساسة الاحتلال وركاكة العملية السياسية ومدى الهوّة بين الشعب العراقي ومقرات المنطقة الخضراء التي يتمترس فيها أصحاب عملية الاحتلال خوفا من غضب العراقيين. ما يلاحظ في بيان الإنجازات أنه يركّز، أولاً وقبل كلّ شيء، على مدينة الناصرية قلعة ثورة تشرين التي طرد أبناؤها كل الأحزاب وممثليهم من المدينة إبان التظاهرات إذ يقول: "عزمنا على إعادة تطوير محافظة ذي قار بتشكيل مجلس إعمار، وهناك مشاريع لتوسيع عشرين مدينة تابعة للمحافظة". يتابع البيان: "تعهدنا بأن نمضي للتهيئة لحكومةٍ مقبلة، وأصدرنا عدة قرارات بشأن مكافحة الفساد والشركات المتلكئة والوهمية، وتمكّنا من افتتاح المستشفى التركي المتوقف منذ عشر سنوات. وبدأ العمل بإحالة أكثر من مائة مشروع ضمن قطاعات الكهرباء والصحة والبنى التحتية والطرق والجسور والشباب والرياضة، لأن الناصرية التي باركها بابا الفاتيكان خلال زيارته لزقورتها تستحق أن تحظى بمكانة تليق بتاريخها".
يدّعي الكاظمي ومستشاروه قيامه بإصلاحات كثيرة، وإنجاز مشاريع البناء وافتتاح مشاريع أنجزت في عهده، وهو ما تنفيه الحقائق العنيدة على الأرض
الحقيقة أن المستشفى التركي الذي بني على أنقاض المستشفى العسكري السابق مهجور تماما، ولم يكمله أهل عقود البناء، بل افتتح الكاظمي طابقا واحدا منه، بحسب روايات أهل الناصرية. وكل ما ورد في بيان الإنجازات هو من باب الدعاية، من مشروع المطار الى الطرق والجسور والمجمعات السكنية والملعب الأولمبي الذي سرقت أمواله المرصودة، واليوم هو مجرّد سياج حديدي، وهيكل لا أكثر، ومثله مشروع المدينة الصناعية. أما مشاريع الكهرباء، فبحسب المصادر، 70% منها وهمية، وما يؤكد ذلك أن البيان الذي نشره المكتب الإعلامي يتكلّم عن تكلفة لكل هذه المشاريع، تصل إلى 120 مليون دولار، وهو مبلغ بسيط جدا وغير معقول لكل هذه المشاريع التي يسطّرها كاتب البيان كما يشاء. ولا يمكن إخفاء وهم هذه الادعاءات المعلبة للدعاية الانتخابية، وإحضار وفد إماراتي "لتوقيع عقود جديدة" وتقديمها للشعب العراقي، قبل أربعة أيام من موعد الانتخابات، الأمر الذي دعا أبناء الناصرية إلى الهتاف: "حتى كذبكم خلص".
الحقيقة أنه لا نهاية لادعاءات حكومات المنطقة الخضراء، وأكبرها هو ادّعاء حكومة الكاظمي بأن ما يقوم به هو تحقيق مطالب ثوار تشرين، خصوصا إجراءه انتخابات مبكرة. وذلك مناف للحقيقة، فلو أن الكاظمي قد أجرى الانتخابات في شهر إبريل/ نيسان الماضي أو حتى في شهر يونيو/ حزيران الماضي، لكان له الحق في القول إنه حقق أحد مطالب تشرين، لكنه تهرّب منها بحجة جائحة كورونا. الرغبة في تصفية ثورة تشرين، واغتيال قادة فيها كانت المهمة الأساسية لحكومة الكاظمي قبل الشروع بالانتخابات، حيث استمرّت الاغتيالات، فقد قُتل منسق تظاهرات كربلاء والناشط في تنظيم المتظاهرين وتوحيد صفوفهم، إيهاب الوزني.
يتوّهم الكاظمي، ومعه كلّ أحزاب الاحتلال، إذا اعتقدوا أنّهم تمكّنوا من القضاء على ثورة تشرين، فهي عائدة لا محالة
اما الادّعاء الآخر فيخصّ الكيانات السياسية الوهمية التي ترعاها حكومة الكاظمي، على أنها كيانات لثوار تشرين جاءت من صلب التظاهرات. مع تسلّم الرجل رئاسة الوزراء، برز أكثر من وجه، وأكثر من تشكيل يتحرّك بحرّية، ويقيم مؤتمراته في قاعات فنادق الدرجة الأولى، يدّعي انتماءه لتظاهرات تشرين وللثورة، للمشاركة في الانتخابات المقبلة، إذ يزعم هؤلاء أنّ الحل الوحيد للتغيير في العراق هو الدخول إلى العملية السياسية، والمشاركة في الانتخابات والقيام بالتغيير من داخل هذه العملية، وليست التظاهرات ولا الثورة. وكما كشف الثوار مبكّرا المندسّين في صفوفهم، وشخّصوا بدقة الأشخاص والشخصيات والأحزاب التي انتقلت، بين ليلة وضحاها، إلى معسكر الاحتجاجات والثورة على العملية السياسية وأحزابها الطائفية، بينما كانت بالأمس في قلب هذه العملية أو من أحزابها، ومن المشاركين فيها منذ 18 عاماً، كشفوا الكيانات التي صنعتها حكومة الكاظمي، ومن ورائها أحزاب المحاصصة الطائفية والعرقية، لاحتواء ثورة تشرين ومطالبها وإفراغها من محتواها الوطني. كشفها الشعب العراقي الذي لم يعد يهتم بعملية الانتخابات. وأكثر من سياسي من أحزاب الاحتلال اعترف، عبر شاشات القنوات الفضائية، بتزوير الانتخابات وعدم جدواها، فقد قال إياد علاوي إن مصطفى الكاظمي قد أخبره أنه قد أحضر "هاكر" وزور الانتخابات في العام 2018 في أربع دقائق. واعترف رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي، بأن المشاركة في تلك الانتخابات وصلت الى 20% فقط، وتم تزويرها، والتزم الصمت لتجنب الفوضى.
يتوّهم الكاظمي، ومعه كل أحزاب الاحتلال، إذا اعتقدوا أنهم تمكّنوا من القضاء على ثورة تشرين، فهي عائدة لا محالة، لأن التظاهرات لم تتوقف إلا بسبب وباء كورونا واحترام المتظاهرين الشروط الصحية في التباعد وعدم الاختلاط، لكن الذكرى الثانية لها قد أكّدت أن جذوتها ما تزال متوقدة ومشتعلة، لم تنطفئ في قلوب العراقيين، لا يرون خلاصهم واستعادة وطنهم وسيادة بلدهم الا فيها. خرجت سبع من مدن جنوب العراق من جديد في تظاهراتٍ، أعلن شبابها العهد لمواصلة الكفاح، من أجل تحقيق المطالب التي خرجوا من أجلها، وضحّوا بأغلى شبابهم في سبيلها قبل سنتين. في أكبر تظاهرة، عاد أبناء الناصرية إلى شوارع مدينتهم بالآلاف في الأول من الشهر الجاري، عازمين على السير في طريق الشهداء وطريق النصر حتى تحرير العراق. رفعوا صور الشهداء، ومزّقوا صور المرشّحين للانتخابات، ليضعوا محلها صور صفاء السراي ورفاقه ورفيقاته الذين استشهدوا وهم يهتفون "نريد وطن". هتافات جديدة تصدح بها حناجر الشباب، تتهكم على المرشّحين للانتخابات وتستهزئ بهم، وتقول لهم: "الورع والزهد وأسلوب السجاجيد وسوالفكم المعسولة الرزينة واللهم والحمد لله ما نصدق بيها. إذا نصافحكم نخاف تبوكون (تسرقون) أصبعا من كفوف أيدينا. وياللي مرشّح لي روحك، رايد تشتريني بسلتك هاي، سلتك بيها نعمة الله، ما يصير صورتك تلزك (تلصق) بيها".