جائزة سقراط ومعايير العمل الخيري
سقراط لاعب كرة قدم برازيلي باهر. استحدثت مجلة فرانس فوتبول، التي تمنح سنوياً جائزة الكرة الذهبية الشهيرة لأفضل لاعب في العالم، جائزة جديدة باسمه قبل أيام، مخصّصة للاعبي كرة القدم المشاركين في مشاريع مجتمعية وخيرية، كي "تكافئ المبادرات لصالح التكامل الاجتماعي أو التنمية البيئية أو مساعدة السكان المعرضين للخطر الشديد أو ضحايا الصراعات"، بحسب بيان أصدرته المجلة الفرنسية ذائعة الصيت، لتُضاف هذه الجائزة الجديدة، السابعة، إلى الجوائز الست التي تقدّمها سنوياً لـ: أفضل لاعب، أفضل لاعبة، أفضل لاعب شاب، أفضل هدّاف، أفضل حارس مرمى وأفضل نادٍ.
كان سقراط نجماً للملاعب في ثمانينيات القرن العشرين، وشارك في كأس العالم مرّتين: مونديال إسبانيا 1982 والمكسيك 1986. حمل شارة القائد في منتخب بلاده الذي لعب له بين عامي 1979 و1987 قبل أن يقرّر اعتزال اللعب الدولي ومنح وقتٍ أطول لمهنته الأصلية: طبّ الأطفال. توفي عام 2011 عن 57 سنة نتيجة إصابته بالتهاب معوي شديد.
وجاء في تفسير المجلة اختيار اسم سقراط لهذه الجائزة الجديدة، ذات الطابع الإنساني، أنّ سقراط، واسمه الحقيقي سامبايو دي سوزا فييرا دي أوليفيرا، "صاحب دور سياسي كبير في مناهضة الحكم الديكتاتوري في البرازيل، ونضال من أجل حكم ديمقراطي خلال سنوات الثمانينيات من القرن الماضي". وهذا معناه أنّ الجائزة ليست مخصّصة للعمل الإنساني والاجتماعي والخيري الذي ينخرط فيه لاعبو كرة القدم بمعزل عن مواقفهم السياسية.
على اللاعب الفائز بالجائزة أن يكون مدافعاً عما تراه الثقافة الغربية ديمقراطيةً وحريةً، وأن يتصدّى لما تعتبره تلك الثقافة انغلاقاً وتخلفاً.
بكلمات أكثر تفصيلاً، لا يُقصد من الجائزة تشجيع العمل الإنساني والخيري على إطلاقه، وإنّما ذلك النوع منه المتوافق مع الحياة الغربية، ومع قيمها الليبرالية، من قبيل التكافل الاجتماعي الذي يتعاطف فيه الأثرياء مع الفقراء، عوضاً عن التكافؤ الاجتماعي الذي تكون فيه للمواطنين حقوق تحفظ كرامتهم بعيداً عن العطف والإحسان الطبقي. وإذا كان التشجيع على هذا "التعاطف مع الفقراء" ليس أمراً سيئاً حين يتعلق بلاعبي كرة القدم الأثرياء، الذين هم ليسوا منظّري سياسة وفلسفة واقتصاد، وليس مطلوباً منهم أن يتولوا دور الحكومات، فإنّ الأمر الذي يمكن أن يكون مثيراً للريبة يتمثل في ربط الجائزة بالدفاع عمّا تستحسنه الثقافة الغربية في مسائل السياسة، بدليل أنّ بيان المجلة ركّز على دور سقراط في مناهضة الديكتاتورية والدفاع عن الديمقراطية، وتغافل عن دوره الإنساني طبيباً ولاعب كرة قدم اهتم بالفقراء والضعفاء.
وفضلاً عن أنّ هذا الأمر يربط الرياضة بالسياسة على عكس ما تعلن المؤسسات الرياضية الدولية أنّها تدعو إليه، فإنّه كذلك يجعل كرة القدم باباً لترويج التفكير السياسي الغربي، بدل أن تكون لعبة عالمية يعشقها العالم كله، بغض النظر عن قيمه السياسية وتفكيره السياسي. وهذا يعني أنّ على اللاعب الفائز بالجائزة ألا يكون صاحب أعمال خيرية ومشاريع إنسانية، وعنصراً فاعلاً في الحملات الإنسانية التي تهدف إلى مساعدة الذين يعانون من مشكلة ما أو من أزمةٍ عابرةٍ ما وحسب، بل عليه قبل ذلك أن يكون مدافعاً عما تراه الثقافة الغربية ديمقراطيةً وحريةً، وأن يتصدّى لما تعتبره تلك الثقافة انغلاقاً وتخلفاً.
خشية استغلال الجائزة لدفع اللاعبين إلى الانحياز لإسرائيل باعتبارها دولة ديمقراطية لمجتمع حرّ يدافع عن حقه في الحياة
بالطبع، علينا أن نخشى هنا أن يكون الموقف من الصراع العربي الإسرائيلي جزءاً من هذه الصورة العامة، فيجرى استغلال الجائزة لدفع اللاعبين إلى الانحياز لإسرائيل باعتبارها دولة ديمقراطية لمجتمع حرّ يدافع عن حقه في الحياة، مقابل تصوير المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال باعتبارها إرهاباً يعادي واحة الحرية المزعومة تلك. ذلك أنّ هذه الطريقة في استثمار الجوائز الكبرى لتصوير النمط الثقافي الغربي أنه الأفضل للحياة الإنسانية (على نهج: نهاية التاريخ والإنسان الأخير) ليست غريبة عن المؤسسات الثقافية في الغرب، وقد أسيل حبر كثير في الحديث عن دور جائزة نوبل للآداب، مثلاً، في تشجيع الكتّاب في العالم على تبنّي نمط التفكير السياسي الغربي، بما في ذلك الجزئية المتعلقة بإسرائيل، فما بالك إذن في جائزة نوبل للسلام!
لكن، هل كان اللاعب سقراط يمثل فعلاً منظومة القيم الليبرالية الغربية؟ أم أنّ استعمال اسمه لهذه الجائزة سيكون بمثابة استغلال غير بريء لنضال لاعبٍ من أميركا اللاتينية لم يكن ينظر إلى القيم الغربية نموذجاً ومقياساً وقدوة، فيما لو صدقت التوقعات بجعل منظومة القيم السياسية والثقافية الغربية مقياساً لمنح الجائزة واختيار الفائزين بها سنوياً؟
كانت القيمة السياسية المضافة التي قدّمها سقراط في البرازيل انخراطه في عملية "دمقرطة" نادي كورينثيانز الذي لعب له
واقع الحال أنّ سقراط سعى إلى خدمة مجتمعه في البرازيل من خلال لعب كرة القدم التي اعتبرها وسيلة للمصالحة بين بني البشر، من دون أن يتغنّى بالديمقراطية الغربية، بل بالعكس، فقد سارع إلى ترك منافسات الدوري الإيطالي بعد شهور قليلة من انضمامه لنادي فيورنتينا عام 1984، والعودة إلى بلاده، هروباً من "السيطرة المادية على كرة القدم" التي لاحظها في أوروبا. وكانت القيمة السياسية المضافة التي قدّمها في البرازيل انخراطه في عملية "دمقرطة" نادي كورينثيانز الذي لعب له، والتي تمثلت في عرض مجمل قرارات النادي للتصويت، كطريقة للاحتجاج على الحكم العسكري الذي سيطر على البلاد منذ انقلابه على الرئيس المنتخب (غولارت) عام 1964، وأمسك بالسلطة حتى عام 1985، والذي كان، للمفارقة، مدعوماً من الولايات المتحدة التي ترفع شعارات الديمقراطية والحرية، هذا إلى جانب تصريحات سقراط الإعلامية التي كان يبدي فيها بصراحة نادرة وقتها معارضته الحكم القائم.
والمعنى أن نشاط سقراط السياسي كان منحازاً لفكرة الحرية على إطلاقها، لا الحرية بالمقاييس الغربية، بدليل وقوفه في وجه حلفاء الولايات المتحدة في بلاده الذين كانوا يمثلون تياراً قومياً يمينياً، ما يدلّ على أن سقراط كان أقرب إلى اليسار، لكن اليسار الديمقراطي الذي يجمع بين الحرية السياسية والحق في العدالة الاجتماعية، ويرفض الظلم واستضعاف الناس الذي يمثل الاحتلال أحد أبشع وجوهه. يحسُن بالقائمين على جوائز "فرانس فوتبول" ملاحظة ذلك، حتى لا يأخذوا كرة القدم بعيداً عن كونها وسيلة للمتعة والفرح للناس جميعاً، كما يحسُن بعائلة سقراط مراعاة ذلك، بينما يقدم شقيقه الأصغر راي (فاز بكأس العالم مع البرازيل عام 1994) الجائزة لأول مرة في حفل المجلة يوم 17 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي في باريس.