جامعات الناس وجامعات القيود
حيرة الطلاب وأهاليهم في اختيار الجامعة المناسبة لهم تنسيهم فرحة النجاح في الثانوية العامّة، خصوصاً عندما يتأخّرون في اتخاذ القرار أو ينتظرون الدرجة التي سيحصل عليها الطالب. وبينما لا يتطلّب الأمر أيّ حيرة لدى الأثرياء فأبواب الجامعات الخاصة، أو جامعات النخبة، مفتوحة أمامهم، فإنّ الفقراء، كدأبهم في كلّ شيء، لا بدّ أن يعايشوا منظوماتٍ كاملة من النضال (بل المرمطة) قبل الوصول إلى أفضل الأسوأ في اعتبارهم؛ مالياً، وأكاديمياً، ومخرجاتٍ.
لكنّ تلك المساومة تخفي كثيراً من القهر الذي يتعرّض له الأهل، والغُبن الذي ينال الطالب، في ما يورده بورديو وباسرون في إطار إعادة الإنتاج الطبقي من خلال النظام المدرسي الممتد إلى التخصّص الجامعي. يتضح هذان القهر والغبن في بلد مثل لبنان حيث الجامعة اللبنانية (الرسمية الحكومية برسوم ضئيلة مقارنة بالجامعات الخاصة، بعدد طلاب يصل إلى نحو 80 ألفاً، وعدد أساتذة يناهز 10 آلاف) لطالما كانت وما زالت من أهم الجامعات، لكنّها، عدا عن ابتلائها بأحزاب طائفية تسيطر على كلياتها ومعاهدها وفروعها وتساهم في تدميرها إدارياً وتعليمياً وطلابياً، تتعرّض لحملة تاريخية تنال من سمعتها في كلّ شيء، كما تُحرَم من المخصّصات المطلوبة لتطويرها وتعزيز مكانتها باعتبارها جامعة الوطن ككلّ. وتحدّث الخبراء غير الحزبيين طويلاً عن أهداف هذه الحملة التي تصبّ في صالح الجامعات الخاصة (معظمها تملكه أو تساهم فيه مؤسّسات دينية وزعامات طائفية) التي تقاتل لاستقطاب ما أمكنها من الطلاب الذين يُفترض أن ينتسبوا إلى الجامعة اللبنانية. فهذه الجامعات الخاصة التي يصل عددها إلى نحو 50، بعضها جامعة عالية المعايير، وإن كان نخبوياً، فيما البعض الآخر ليس أكثر من مشروع تجاري لا همّ له غير الربح، وهو تهذيب للفظ "دكاكين" الذي أطلق عليها.
لعلّ القائمين على تصنيف الجامعات في العالم تنبّهوا، منذ سنوات، إلى معايير أبعد من "سمعة الجامعة لدى الشركات" في ما يعنيه من تجهيز للطالب لسوق العمل، فأضافوا بعض المعايير ذات الصبغة السياسية المرتبطة بالعلاقات الدولية، كما بعض المعايير العلمية، من قبيل "عدد الأبحاث المنشورة ونسبة الاستدلال بها". أحد أبرز هذه التصنيفات، وهو "تايمز هاير إيديوكيشن" يعتمد خمسة معايير: التدريس، البحث (الإجراءات)، أثر الأبحاث (الاستعانة المرجعية بها)، التعاون الدولي (على مستوى الأساتذة، والطلاب، والأبحاث)، مخرجات التعليم.
من معاني كلمة جامعة "القيد تُشدُّ بهِ الأيدي إلى الأعناق"، فلا تجعلوا جامعاتكم قيوداً لطلاب مغلولين.
هي معايير مهنيّة شديدة الوضوح. لكن هل يجوز تقييم مؤسّسات جامعية في العالم بالمعايير نفسها النابعة من بيئة جامعية غربية الطابع؟ الجواب هو في مدى استجابة تلك الجامعات للشروط التي تسبق المعايير، وهو ما يتركنا، في هذه الحالة، تائهين، خصوصاً في جامعات عربية كثيرة تحاول التقدّم في تلك التصنيفات، لكنّها، إن تسنّى لها الدخول، فهي بالكاد تصل إلى الجامعات الـ500 الأفضل في العالم.
لا جدال في أنّنا نعيش عصر عالمية العلوم، فحتى العلوم الإنسانية التي تدخل في صميم الثقافات والمجتمعات المحلية، تلتقي في نقاط مشتركة، منهجية ونظرية وإجرائية، مع نظيرتها في ثقافات ومجتمعات مغايرة. وهو التقاء جيد علمياً إذ يتيح للطالب والباحث مجالاتٍ وحقولاً أبعد من المحلي الضيق، نائياً عن الانعزال الذي يتناقض، بطبيعته، مع طبيعة العلم الساعية إلى الوصول إلى قوانين عامة. وفي هذا المقام، تجد كلمة "جامعة" أو نظيرتها اللاتينية أونيفيرسيتاس (Ūniversitās: University,Université, Universidad,Università...)، اللتين تعنيان ذلك الكلّ الجامع المتخذ صفة العالمية. وبينما تجمع "الجامعة" العلوم والاختصاصات، فإنّ الجمع الأهم اجتماعي، أي اجتماع الناس من شتّى المشارب والمذاهب والألوان والأعراق والطبقات، في ما يعزّز مبدأ ديمقراطية التعليم. أي أنّ هذا الجمع، بما يعنيه من تنوع وتعددية ثقافية وتكافؤ فرص، يفترض أن يكون معياراً أساسياً في أيّ تقييم، وإن لم يُرضِ القوى المتسلطة على اقتصاد السوق في كثير من البلدان... وليس جميعها.
تصرّ جامعات كثيرة في لبنان على الانعزال الذي يتّخذ أشكالاً عدة
تصرّ جامعات كثيرة في لبنان على الانعزال الذي يتّخذ أشكالاً عدة، فبعضها ينعزل طبقياً، وهو فولكلور لبناني عريق، مع أنّ بعض هذا البعض يقدّم منحاً للفقراء المتفوّقين ومساعدات مالية تكسر شيئاً من انعزاله. وبعضها ينعزل طائفياً، إذ يجد الطالب من طائفة مخالفة للسائد فيها بيئة طاردة إذا ما فكّر في الانتساب أساساً. وبعضها ينعزل عن التكوين الفكري السياسي للطلاب، إذ يمنع النشاطات والانتخابات والدعوات المرتبطة بصناعة التغيير في المجتمع من مصانع مفترضة للتغيير، وهي الجامعات، وبين هذه من يمنع فريقاً ويسمح لفريقٍ بحسب السطوة الحزبية- الطائفية التي يقع في إطارها... وبعضها ينعزل بطرق أخرى.
تلك النماذج مسيئة لمعنى الجامعة من أساسه؛ مسيئة بقدر الفصل بين الجنسين فيها، ومسيئة بقدر الفصل العنصري أو الديني، ومؤدّية إلى صناعة "نخب" لا تعرف الكثير عن شركائها في الوطن نفسه وفي الإنسانية، وملتزمة بانعزال آمن في وجهة نظرها (وجهة نظر من يدفعونها إلى هذا الانعزال).
تبقى الإشارة إلى أنّ من معاني كلمة جامعة "القيد تُشدُّ بهِ الأيدي إلى الأعناق" (معجم الدوحة التاريخي للغة العربية)، فلا تجعلوا جامعاتكم قيوداً لطلاب مغلولين.