جدل الوجود الأميركي في العراق
لا يمكن، بأي حال، تجاهل تصريحات قائد القيادة الأميركية المركزية الوسطى، الجنرال كينيث ماكينزي، خلال جلسة استماع للجنة القوات المسلحة في الكونغرس الأميركي في 21 إبريل/ نيسان الجاري، عن أنه "لا توجد خطط في الوقت الحالي لسحب القوات الأميركية من العراق بالكامل "بحجة" أن تنظيم داعش لم يختف من المنطقة بعد، وقادر على شن هجمات". وعلى الرغم من تأكيد ماكينزي أن دور قوات بلاده في العراق يقتصر على "تقديم المشورة للقوات العراقية"، إلا أنه وضع الحكومة العراقية في وضع ربما محرج بعض الشيء، حين تحدّث عن قوة علاقة قواته بهذه الحكومة، وأن مباحثات الإطار الاستراتيجي التي جرت بين الولايات المتحدة والعراق أفرزت توصياتٍ تقضي ببقاء القوات الأميركية. وهو ما لم يعلن عنه الجانب العراقي بشكل واضح وصريح، بما يفتح الأبواب أمام ضغوط كبيرة، ستمارسها بعض القوى السياسية الفاعلة ومليشياتها التي يتهم بعضها باستهداف قواعد الجيش الأميركي وسفارة واشنطن في بغداد، على شخص رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، تحديداً، حيث تتهمه هذه القوى أصلاً بالمراوغة والمماطلة كسباً للوقت، حتى موعد الانتخابات العراقية في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل.
أراد الكاظمي طمأنة إيران والقوى المتحالفة معها في العراق إلى أنه يمضي في الطريق الصحيح لإنهاء الوجود الأميركي في بلده، وإعادة هيكلة هذا الوجود
يحاول الكاظمي دائماً تجنيب حكومته الصدام المباشر مع بعض التنظيمات السياسية والمليشياوية النافذة في العراق، ويلجأ إلى طرح مخارج معقولة لكل الأزمات التي اعترضت وستعترض طريق وزارته، وهو في هذا الأمر دائماً ما يعلن عن نية حكومته وعزمها إنهاء هذا الملف بشكل ودي مع الولايات المتحدة، مع التركيز في توصيف وجود القوات الأميركية بأنها استشارية، وهو ما لا يعقله معارضو الكاظمي ولا مؤيدوه، لأن مجريات الأمور الجيوسياسية في الإقليم تضع ألف سبب لواشنطن لإبقاء قواتها، لا بل تعزيز وجودها تقنياً وتكنولوجياً. وقد قال الكاظمي، في أثناء استقباله قادة وضباطا كبارا في الأجهزة الأمنية والعسكرية العراقية، في مأدبة إفطار رمضاني، "لقد نجحنا عبر الحوار البنّاء الحقيقي والمسؤول في فرض آليات قانونية وزمنية لانسحاب قوات التحالف الدولي". وأضاف "شكلنا لجنة عسكرية فنية مختصة لتحديد الاحتياجات والضرورات العراقية، وكذلك آليات تسلّم المهام من قوات التحالف الدولي". وربما أراد الرجل، من خلال هذه الرسالة، طمأنة إيران والقوى المتحالفة معها في العراق إلى أنه يمضي في الطريق الصحيح لإنهاء الوجود الأميركي في بلده، وإعادة هيكلة هذا الوجود وتوصيفه وتأطيره بصيغة التعاون في مجالات الاستشارة والتدريب والمعلومات الاستخباراتية. وهناك أيضا رسالة إلى واشنطن، مفادها بأن العراق بلدٌ يسعى إلى تعزيز سيادته الوطنية وتأكيدها، وبالتالي يمتلك القدرة على ضبط أي اتفاقات تتعلق بوجود القوات الأجنبية على أراضيه، وأن حجم هذه القوات ونوعها يتم عِبرَ إرادة العراق، وليس أية أطراف أخرى، والمقصود هنا إيران.
يمثل العراق بالنسبة لواشنطن خط الصد الرئيس للتمدّد الصيني – الروسي – الإيراني صوب العالم العربي وإسرائيل
شهادة الجنرال ماكينزي أمام الكونغرس يجب أن تُقرأ بشكل صحيح، وهي بالتأكيد تعني أن القوات الأميركية باقية في العراق، وأن قواعد هذه القوات سيتم تطوير قدراتها وإمكاناتها اللوجستية والاستخبارية ونوعية الطائرات الحربية فيها بشكل مبرمج، ذاك أن الولايات المتحدة تلاحظ وباهتمام شديد التحرّكات الصينية والروسية صوب الشرق الأوسط، وعبر بوابة إيران تحديداً، حيث تطورت علاقة هذين البلدين المنافسين للولايات المتحدة بإيران؛ فحققت الصين اتفاقية تعاون تجاري واستراتيجي مدتها 25 عاما، كما وقعت روسيا اتفاقية تعاون استراتيجي 20 عامًا.
وبالنظر إلى علاقة إيران الإيجابية بالنظام السياسي في العراق، وتمكّنها من بسط نفوذها على الأرض أمنياً هناك من خلال مليشيات موالية لها، ترى واشنطن أن العراق سيكون ضمن سياسة القضم الممنهجة لدى الصين وروسيا عبر بوابة إيران. ولذلك لم يعد العراق محصوراً بفرضية الوجود الأجنبي المرتبط بنشاط تنظيم داعش الإرهابي، كما برر ماكينزي، لكنه يمثل بالنسبة لواشنطن خط الصد الرئيس للتمدّد الصيني – الروسي – الإيراني صوب العالم العربي وإسرائيل، وهو ما يقلص النفوذ الأميركي في المنطقة بشكل حاد، ويُفقِد واشنطن هيبتها في المنطقة، خصوصا مع تراجع سمعتها بسبب تداعيات احتلالها العراق، وما نتج عنه من تراجع هائل في بنية المنظومة العربية والشرق أوسطية بشكل عام.
إذن، من المبكر والمستغرب جداً الحديث عن جداول فعلية لانسحاب القوات الأميركية في العراق. ولا مبالغة ربما في القول إن الشغل الشاغل للإدارة الأميركية، سواء في عهد الرئيس السابق، ترامب، أم الحالي بايدن، وكل مؤسسات صنع القرار في واشنطن، هو موضوع تعزيز قدرة الولايات المتحدة على تعزيز نفوذها في منطقة الشرق الأوسط ومراقبة التحرّكات الصينية والروسية وبرامج إيران المتناسقة معهم، خصوصا بعد أن تراجعت قدرة حلفاء أميركا في هذه المنطقة على التصدّي لحلفاء طهران وبرنامجها في دولهم، أو من الدول المتاخمة لهم، وعدم قدرة أميركا على مساعدة هذه الدول بشكل مباشر لتخوّفات استراتيجية من توريط نفسها في معارك متعدّدة غير مضمونة الحسم بشكل قاطع.