جمهورية الرعب: عندما يحكم أهل الخير
كل تفصيلة في تراجيديا مقتل الباحث الاقتصادي المصري، أيمن هدهود، تكفي دليلًا على أننا بصدد مفهوم جديد للوطن، يتّخذ فيه هيئة الغول، كما ارتسمت في الخيال الشعبي .. كائن ضخم مخيف ومؤذٍ نصفه حيوان والنصف الآخر بشري، يستخدم في تفزيع الصغار، والكبار، وترويعهما، كي لا يتكلموا أو يتحرّكوا من أماكنهم.
الجريمة المروّعة التي بدأت باعتقال ثم إخفاء قسري، يرافقه تعذيب بالضرورة، وانتهت بمكالمة إلى أسرته تفيد بأن جثته في مشفىً للأمراض العقلية، فاقت، في فظاعتها وبشاعتها، مثيلاتها من كوارث عاشها المصريون منذ العام 2010 مع مقتل الشاب خالد سعيد في الاسكندرية على أيدي أفراد من الشرطة، ثم تصفية الباحث الإيطالي جوليو ريجيني في القاهرة وتقطيع جثته عام 2016، وبعدها مقتل الشاب عبد الله محمد مرسي، 2019، في أعقاب مقتل والده الرئيس الشهيد بالإهمال الطبي داخل السجن، ثم المخرج الشاب شادي حبش في السجن، مع تشويهه بعد القتل 2020، وقتل الشاب عويس الراوي في أقصى الصعيد، في العام نفسه.
في كل فاجعةٍ من تلك الفواجع، كان الاغتيال مضاعفًا، قتل مادي وقتل معنوي، لكن وقائع مأساة أيمن هدهود تحمل ما هو أكثر بشاعةً، بالنسبة لشخصٍ تخرّج بتفوق من الجامعة الأميركية، وكان عضوًا مؤسسًا في حزب سياسي من تلك الأحزاب التي لا تزعج السلطة، ولا تنافسها، فضلًا عن كونه صديقًا وزميلًا حزبيًا لشخصٍ لا شاغل له سوى تبييض وجه السلطة في الخارج والداخل، وترديد أنباء غير حقيقية عن انفراجةٍ كبيرةٍ في ملف الحريات وحقوق الإنسان.
أيمن هدهد، وفق رواية السلطة الموزّعة على الصحف والمواقع الإلكترونية الناطقة باسمها لص شقق سكنية مقتحم، بحي الزمالك العريق، ومريض عصابيًا يهذي ويأتي بكلام غير مفهوم وحركات غريبة، تسقطه أرضًا فاقد الوعي، يهاجم المساكن مناديًا على اسم امرأة.
مرّة، تقول الأوراق الرسمية أنه وجد ميتًا في مستشفى العباسية وأسباب موته مجهولة، ثم فجأة تتغير الرواية عن طريق النيابة العامة ليصبح الضحية متهمًا، والمتعاطفون مع قضيته مجرمين ومثيري قلاقل.
كان قتيلًا مجهول الهوية، ومن ثم صدر تصريح بدفن جثته في مقابر الصدقة، بعد مرور شهر على مقتله، ثم تقرّر النيابة العامة فجأة أن المجهول معلوم وقد مات نتيجة هبوط حادٍّ بالدورة الدموية .. فيما عند أسرته رواية أخرى، هي الحقيقية بالطبع، كونها تعتمد على وقائع ثابته، تبدأ من اعتقاله بمقر الأمن الوطني بحي الأميرية الشعبي، ليخرج منه مباشرة، وكالعادة، إلى الإيداع في مستشفى أمراض عقلية، ثم النهاية الحزينة.
كل هذه الوقائع المرعبة، والروايات المتخبّطة المليئة بالتناقضات عن باحث اقتصادي مرموق، حسمتها النيابة العامة بعبارة واحدة، حصرية من اختراعات عبد الفتاح السيسي، الذي يتحرّك كالملائكة، ويسلك كالأنبياء، ويتكلم كالنسّاك والمتصوفة والزاهدين الصوّامين القوّامين على شاشة التلفزيون، في مسلسله الرمضاني الذي كتبه ويلعب دور البطولة فيه، فيقول بيان النيابة العامة، نقلًا من صحيح السيسي، إن"نوايا أهل الشر الخفية تستغل بسوء قصد حدوث بعض الوقائع بمجتمعنا لإحداث الفرقة ونشر الفتن في ربوع وطننا الحبيب".
إذن، هو الحل الأسهل والأسرع في كل وقت: تقييد الجريمة ضد أهل الشر والإخوان والمعارضة الشريرة التي لا تريد خيرًا للوطن الذي يحكمه أهل الخير بالحرير والنور، لا بالحديد والنار، وينثرون العدل والرحمة والإنسانية في ربوعه.
ما يقرب من عشر سنوات هي عمر هذه السلطة في الحكم، استتّب لها كل شيء، بعد أن تخلصت من كل خصومها ومعارضيها بالقتل والحرق والسجن والتغييب والإبعاد إلى المنافي، هربًا أو إجبارًا على التخلي عن الجنسية.. عشر سنوات تقريبًا تتلقى المساعدات والمنح والقروض وتفرض الضرائب والرسوم، وتبيع الأصول والشركات والجنسية المصرية للأجانب، وتحاسب المواطنين على الهواء الذي يتنفسونه، وتعدّ عليهم أنفاسهم، ويأتي لها من كانوا في خصومةٍ معها، تسبقهم مليارات الدولارات، هدايا ومنحًا واستثمارات. وعلى الرغم من ذلك كله تشعر بالخوف، وتسلك كما لو كانت مرعوبة من الشعب، الذي يبادلها رعبًا برعب، وقلقًا بقلق.
في جمهورية الرعب هذه، الجمهورية التي قتلت أيمن هدهود كما قتلت جوليو ريجيني وعويس الراوي وشادي حبش وعبد الله مرسي، هناك من يطعن في وطنية علاء عبد الفتاح الذي سرقوا عمره في السجن الانفرادي، من دون جريمة، لأنه حصل على جنسية دولةٍ أخرى، على الرغم من أن هذه الجمهورية المرعبة والمرعوبة هي التي اعتمدت المعادلة الجديدة للعدل وحقوق الإنسان في مصر ومضمونها هو: اترك وطنك وابحث عن الحرية في مكان آخر، فهذا الوطن/ الغول لا يحب الحرية، لا ينتجها ولا يستوردها، ولا يسمح بمرورها في أجوائه.