جوع وسلاح
فيما تحذّر تقارير دولية عديدة من تضافر مجموعة أزمات كبرى تهدّد الاقتصاد العالمي والسلم الاجتماعي، تشمل ارتفاع أسعار الغذاء والتضخّم وتفاقم الديون وانقطاع سلاسل الإمداد وارتفاع أسعار الطاقة، فضلاً عن تصاعد التنافس الجيوسياسي بين القوى الكبرى في النظام الدولي، يأتي تقرير معهد ستوكهولم لدراسات السلام الدولي (SIPRI) الأخير صادماً لجهة الزيادة الحاصلة في حجم الإنفاق العسكري العالمي. يتحدّث التقرير عن ارتفاع إنفاق العالم على التسلّح للعام السابع على التوالي، وليصل إلى أعلى مستوى له على الاطلاق عند 2,1 تريليون دولار في عام 2021، ويبيّن أن جائحة كورونا قد تكون عطّلت كل أشكال الإنتاج، وأثّرت على كل أوجه الإنفاق، إلا العسكري منها. وقد وجد التقرير أن الدول الخمس الأكثر إنفاقاً، وهي على التوالي الولايات المتحدة والصين والهند وبريطانيا وروسيا، مسؤولة عن 62% من إجمالي إنفاق العالم على التسلح، وأنها جميعا باستثناء الولايات المتحدة زادت ميزانياتها العسكرية خلال العام الماضي. ورغم أن إنفاق واشنطن الدفاعي تقلص بنسبة 1,4% عام 2021، إلا أنها ظلت الأعلى إنفاقاً عالمياً (801 مليار دولار) وتمثل 38% من إجمالي الإنفاق العالمي على التسلح. أما الصين، ثاني أكبر منفق عسكري في العالم، فقد زادت ميزانيتها العسكرية بنسبة 5% تقريباً، وذلك للسنة 27 على التوالي، ليصل الى 293 مليار دولار. وقد دفع تسلح الصين جيرانها المذعورين بدورهم إلى زيادة إنفاقهم، فزادت اليابان إنفاقها بمقدار 7 مليارات دولار (7,3% من ميزانيتها العسكرية وهي أعلى زيادة منذ عام 1972)، وكذلك فعلت أستراليا (32 مليار دولار)، والهند التي بلغ إنفاقها 76 مليار دولار. أما روسيا التي غزت أوكرانيا مطلع هذا العام، فقد زادت إنفاقها العسكري العام الماضي بنسبة 3% تقريباً، ليصل الى حوالي 66 مليار دولار. الخبر الجيد في تقرير هذا العام هو خلو قائمة الخمسة الأكثر إنفاقاً على التسلح من اسم أي دولة عربية، إذ درجت السعودية على الظهور في هذه القائمة على مدى العقد الماضي، لكنها خفّضت إنفاقها هذا العام بنسبة 17% لتصل إلى حوالي 55 ملياراً، رغم استمرار انخراطها في حرب اليمن، وقد حلت محلها بريطانيا (68 مليار دولار).
في اليوم نفسه الذي صدر فيه تقرير معهد ستوكهولم عن أرقام التسلح في العالم، صدرت عدة تقارير دولية عن البنك الدولي ومؤسسة مكنزي وبلومبيرغ وغيرها ترسم سيناريو كارثياً لأوضاع العالم الغذائية والاقتصادية بسبب استمرار تداعيات جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا. ووجد تقرير البنك الدولي أن هذه الحرب قد تدفع بحوالي 320 مليون إنسان إلى حافة الجوع، بما فيها بين سكان الدول الأكثر إنفاقاً عسكرياً، وذلك نتيجة استمرار ارتفاع أسعار الغذاء وتوقف حركة تصدير الحبوب عبر البحر الأسود. ويعاني حالياً نحو 45 مليون إنسان من الجوع، أكثرهم من النساء والأطفال بزيادة بلغت 300% خلال الشهور الستة الأخيرة. ووجد تقرير مكنزي أن مؤشّر أسعار الغذاء العالمي يعدّ الأعلى حالياً منذ بدأت عملية الرصد قبل 60 عاما. وقد زاد الأمر سوءاً ارتفاع أسعار الأسمدة المستخدمة في الزراعة ونقص المعروض منها، كأحد التأثيرات الجانبية للعقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا، التي تعدّ من أهم منتجي الأسمدة حول العالم. ويؤكّد تقرير البنك الدولي أن ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء مترافقاً مع تنامي ديون الدول النامية التي تصاعدت بشدة نتيجة جائحة كورونا سوف تدفع دولاً عديدة، مثل باكستان وإثيوبيا وتونس، إلى التخلف عن سداد ديونها، في حين ستصل دول أخرى إلى حافة الإفلاس، خصوصاً مع توجه الفيدرالي الأميركي إلى رفع أسعار الفائدة لكبح جماح التضخّم الذي بلغ أرقاما قياسية في الولايات المتحدة ودول عديدة.
مع ذلك، ورغم أن العالم يواجه اليوم أزمة جوع مخيفة، يتوهم بعضهم أنه في منأى عن تداعياتها، فيتم تخصيص تريليوني دولار على شراء السلاح وتصنيعه. لطالما تميز الإنسان بأنه كائن عاقل، لكننا نعجز، في أحيان كثيرة، عن إيجاد تفسيرات عقلانية لجزء كبير من سلوكه غير العقلاني.