حتى أنت يا ديفيد غروسمان
من الأوهام التي تراود كثيرين كلما شنّت إسرائيل عدواناً على قطاع غزّة أن نخبها منقسمةٌ فيما بينها، أو أن ثمّة تبايناً بينها إزاء الأهداف والاستراتيجيات. قد يصحّ هذا جزئياً وأحياناً، ولكن ليس كلياً ودائماً. ومن يتابع مواقف الأطراف الكبرى داخل إسرائيل من أحزابٍ وشخصياتٍ عامة وكتّابٍ ومثقفين، فلن يجد اختلافاً كبيراً فيما بينها على الهدف الأكبر للعدوان، وهو هزيمة حركة حماس واستعادة الرهائن، بغضّ النظر على الأولوية بينهماً؛ فبينما يرى بعضهم أن المطلوب هو القضاء على "حماس" وليس هزيمتها فقط يرى آخرون أن الهدف هو القضاء على فكرة "حماس" من أساسها، أي تدمير البيئة الحاضنة للحركة تماماً، وأياً تكن الأكلاف العسكرية أو حتى الأخلاقية. وفي الحقيقة، ليس السؤال الأخلاقي مطروحاً هنا على الإطلاق.
لا يتبنّى طرحاً كهذا يوآف غالانت وزير الدفاع (!) وحسب، بل طيفٌ واسعٌ وأساسيٌّ في إسرائيل، ومن هؤلاء الجنرال غيورا آيلند، وهو جنرال سابق وصاحب مشروع دولة فلسطينية تكون مساحةٌ من سيناء جزءاً منها، وأيضاً الروائي ديفيد غروسمان، وقد تكون المفاجأة هنا، ما يؤكّد، على نحو ما، فكرة اتحاد الإسرائيليين أمام ما قد يعتبرونه خطراً وجودياً داهماً. في مقالة له نشرت قبل أيام في "يديعوت أحرونوت"، يرى الجنرال آيلند أن إسرائيل لا تحارب "منظمّة"، ويقصد "حماس"، بل "دولة غزّة" التي تقودها الحركة. وعليه، لا يكفي استهداف مسلّحيها أو هزيمتها وحدها، بل تقويض الأساس الذي قامت عليه، وهو البيئة الحاضنة، أي كل الغزّيين من نساء ورجال وأطفال، حتى لو اقتضى ذلك السماح بانتشار الأوبئة، فذلك من شأنه تقريب النصر، وتشكيل عامل ضغطٍ على السكان ومسلّحي الحركة وقادتها الصغار لإعلان الاستسلام ما دام يحيى السنوار لن يفعلها. ولا تنقص الجنرال السابق الوقاحة، حين يكتب إن هذه ليست وحشية لذاتها، فمعاناة الطرف الآخر ليست الهدف لذاتها، بل هي الوسيلة التي قد تدفع هذا الطرف إلى السعي إلى وقف المعاناة جرّاء انتشار الأوبئة والقتل، بإعلان الاستسلام.
ما يقوله آيلند أو يسعى إلى تكريسه هو اقتراح معادلة أخلاقية تخصّه، وعلى العالم أن يقبل بها، فهم لا يقتلون ويدمّرون ويرتكبون جرائم الحرب "لذاتها"، بل للوصول إلى سلام يخصّهم ويحصّنهم، ويحول دون أي هجوم في المستقبل ضدّهم، بمعنى أنهم ليسوا أشرارا من الأساس، بل يلجأون إلى وسائل شرّيرة لأهداف نبيلة: تخليص غزّة من الشر نفسه.
غروسمان، وهو من كبار الروائيين الإسرائيليين، يقترح معادلة أخرى، تقوم على أن من الصحيح أن الاحتلال جريمة، لكن إطلاق النار على مئات المدنيين بدم بارد جريمة أسوأ، وذلك على أساس "تصنيف الشر" أو التسلسل الهرمي له من حيث الشدّة. وعليه، يتساءل غروسمان ما إذا كان ينبغي وصف مسلّحي "حماس" بالحيوانات. والتساؤل يعني أنهم كذلك، بحيث تنتفي الفوارق بينه وبين وزير الدفاع العنصري، يوآف غالانت، جهراً والذي لا يبالي حتى لو اتُّهم بارتكاب جرائم حرب.
كتب غروسمان مقاله قبل تحقيق صحيفة هآرتس الذي خلص إلى أن مئات الإسرائيليين (المدنيين) قُتلوا حرقاً بقصف من سلاح الجوي الإسرائيلي عملاً ببروتوكول هانيبال العسكري. ومن غير المتوقّع أن يغيّر رأيه بناء على ما استجدّ من معلومات، فالمبدأ بالنسبة له أن إسرائيل في حالة صدمة، وتواجه خيانةً غير مسبوقة من نتنياهو لفكرة الدولة- الملاذ، المنزل الآمن ليهود العالم، الوديعة الأثمن على الإطلاق (الوطن القومي للشعب اليهودي) التي خُذلت من حرّاسها المفترضين، وهي تواجه حالياً كابوسها العصيّ على الوصف (هجمات 7 أكتوبر)، وأنها مُحاطة بالكراهية. لم يتساءل غروسمان لماذا، فحتى سلوك إسرائيل وجرائمها في الأراضي المحتلة طيلة 56 عاماً لا تبرّر ولا تخفف مما تم اكتشافه في 7 أكتوبر، وهو حجم الكراهية لإسرائيل، وأن السؤال بالنسبة للإسرائيليين حالياً هو من سنكون عندما ننهض من الرماد ونعود إلى الحياة؟ سنكون أكثر يمينيةً وعنصرية، وسيتعيّن علينا دائماً العيش في حالةٍ من اليقظة المتزايدة والاستعداد للحرب. أن نكون أثينا وإسبارطة في الوقت نفسه وطوال الوقت.
هذا يعني بلغة غالانت، وزير ما يسمّى الدفاع، أن نقتلهم ونسلهم، أي أن نُبيدهم. ليس ثمّة وقت لسؤال الأخلاق، وليس ثمّة عالم يستحقّ الحياة نفسها غيرنا، وعلى العالم أن يقرّ بذلك ويعترف.