حدثَ في "ولاية بطيخ"
يروي الباحث الموسوعي الراحل، الشيخ جلال الحنفي، في كتابه "جمهرة الأمثال الشعبية"، أن أصل تسمية "ولاية بطيخ" يرجع إلى أواخر العهد العثماني، عندما انتقلت رئاسة عشيرةٍ كانت تقطن إحدى محافظات العراق الجنوبية إلى شيخٍ يدعى بطيخ، الذي ما أن تسلم الرئاسة، حتى سيطر على طريق خارجي مهم، يربط محافظته بالمحافظات الأخرى، وشرع في أخذ "أتاوة" من كل عابر سبيلٍ يجتاز المنطقة، ولم يكن أحد يستطيع محاسبته، حتى اقترنت المنطقة باسمه، وصار الناس يسمونها "ولاية بطيخ"!
بعد أكثر من مائة عام على ذلك الحدث، يبدو أن "ولاية بطيخ" هذه قد عادت إلى الظهور في ظل انعدام سلطة الدولة وغياب هيبتها إلى درجة أن "العشيرة"، باعتبارها وحدة اجتماعية لمرحلة ما قبل الدولة، أخذت مكانةً تجاوزت من خلالها على القانون، وفرضت سلطتها وأعرافها التي عافها الزمن على معظم محافظات الجنوب والوسط، وتقاسمت النفوذ مع المليشيات السوداء ومافيات الجريمة المنظمة، ولم يعد للدولة من مكانةٍ وهيبة، وبات المواطن الذي لا تسنده عشيرة أو مليشيا نهبا لشتى أنواع الممارسات الشريرة التي تنتقص من حريته وكرامته.
آلاف القضايا الاجتماعية في جنوب العراق ووسطه أخذت طريقها إلى محاكم العشيرة، وليس إلى سلطة القضاء الرسمية
أثارت حكايات "ولاية بطيخ" هذه الأيام القلق والغضب لدى أوساط واسعة من العراقيين الذين وجدوا فيها عودة بالبلاد إلى أكثر من مائة عام، فيما بعضها الآخر أصبح مثار ضحكٍ يشبه البكاء. وفي كل الأحوال، انكشفت فضيحة "تجربة العراق الديمقراطية" التي مرّة قال عنها زعيم حزب الدعوة، نوري المالكي، إنها استقطبت اهتمام دول العالم التي تطمح للاقتداء بها والتعلّم منها.
من هذه الحكايات التي يتداولها العارفون أن عشيرةً في البصرة أهدت خمسين من بناتها الى عشيرة ثانية على سبيل الصلح بين العشيرتين، وتعويضا عن جريمة قتل ارتكبها أحد رجالها، كان ضحيتها أحد أبناء العشيرة الأخرى، ومن دون أن تستفز هذه "التسوية" سلطة القضاء أو حتى السلطة السياسية في البلد.
وثمّة آلاف القضايا الإجتماعية المماثلة في جنوب العراق ووسطه أخذت طريقها إلى محاكم العشيرة، وليس إلى سلطة القضاء الرسمية، وجرى حلها عبر تسوياتٍ تهدر فيها كرامة الإنسان، ويستلب خياره الحر، وقد تصل إلى حد فرض "أتاوة" ليس بالمال فحسب، إنما بالبشر أيضا على النحو الذي سجلته واقعة الفتيات الخمسين. والأكثر إثارة أن وزراء ونوابا احتكموا في خصوماتٍ لهم مع بعضهم إلى العشيرة، وأقرّت نائبة معروفة أنها لجأت إلى العشيرة، لأنها تعتقد أن القضاء الرسمي عاجزٌ عن حمايتها!
"لوثة" العشيرة هذه أصابت المجتمع العراقي في مقتل، وصنعت منه منظومةً مهلهلةً قابلةً للانكسار والعطب عند أول منعطف، وقد تفاقمت، وتصاعد تأثيرها إلى درجة أنها لم تعد تهدّد ما بقي من شبه "الدولة" من كيانٍ وسلطة، إنما أصبحت هي الحاكمة، وهي الآمرة الناهية في محافظات الجنوب والوسط. ولعلها تقتفي في ذلك أثر المليشيات السوداء، وتقتدي بممارساتها، حتى أنست العراقيين أنهم بناة حضارة ورواد شرائع وقوانين منذ ستة آلاف سنة، وجعلتهم يعيشون ردّة رجعية، مثل قدر مفروض عليهم، لا مناص من مجاراته والتماهي معه، وإلا ماذا يمكن أن نسمّي تمرّد عشيرة على خلفية قيام مؤسسة أمنية بعملية إنفاذ للقانون، في محاولة لاستعادة حرية شاب مختطف، والإقتصاص من خاطفيه، وقد تصدّت العشيرة لرجال الأمن، ونظمت تظاهرة مسلحة احتجاجا، كما حذّرت، في بيانٍ معلن، طيران الجيش من انتهاك أجواء المنطقة التي تقطن فيها، وطالبت رئيس الوزراء باعتذار رسمي، مهدّدة باتخاذ "خطوات تصعيدية وفقا لحرية الرأي والتعبير التي كفلها الدستور"، بحسب البيان.
شخصيات سياسية دخلت على الخط، متضامنةً مع العشيرة، ومستنكرةً عملية إنفاذ القانون نكايةً بحكومة مصطفى الكاظمي التي تجرّأت وحاولت تجاوز الخطوط الحمر.
واللافت في الأمر أن شخصياتٍ سياسيةً دخلت على الخط، متضامنةً مع العشيرة، ومستنكرةً عملية إنفاذ القانون نكايةً بحكومة مصطفى الكاظمي التي تجرّأت وحاولت تجاوز الخطوط الحمر. وفي النهاية، تراجع رجال الأمن عن إكمال مهمتهم مرغمين، فيما ظل مصير الناشط المختطف في خبر كان.
حدث هذا كله في "ولاية بطيخ" التي تلد كل يوم أخرى مثلها في هذه المحافظة أو تلك، وقد استشرت "اللوثة" العشائرية هناك، إلى درجة أنها تسللت إلى منظماتٍ تزعم أنها "مدنية"، وأوشك الخراب أن يعمّ، بعدما طمى الخطب وغاصت الركب.
هنا يخطر في البال أن الأمر لم يعد هيّنا، وأنه لا بد من "منقذ ضرورة" يحمل العبء على كتفيه، ويتقدّم الصفوف ليأخذ مواطنيه إلى جادّةٍ ترتفع فيها راية الدولة، وتشيع هيبتها، ويتعزّز فيها حكم القانون، كي يعيش الناس في عدل وأمان.