حدود القانون الدولي وحدود القوة
بالتزامن مع جلسة مجلس الأمن حول سد النهضة، يصعد جدل مطول حول تفاصيل قانونية دقيقة، ومعنى كلمة أو جملة في اتفاقية، كما يتجادل متابعون بالعكس في مدى حتمية الخيار العسكري فوريا. وتغفل عديد من تلك النقاشات النظر إلى ملامح عامة في سوابق دولية عديدة.
في العموم، للقانون الدولي والرأي العام العالمي، على أهميتهما، فعالية محدودة مقارنة بحسابات مصالح القوى الكبرى. لو أن قرارات مجلس الأمن وامتلاك الحق بالقانون الدولي أمور كافية، لكانت إسرائيل قد انسحبت من الأراضي التي احتلتها في 1967 منذ عقود بعد عشرات القرارات الدولية.
نموذج آخر قريب منا هو الأزمة القبرصية. لقد غزت تركيا قبرص عام 1974، بمخالفة للقانون الدولي بالكامل، وتم إنشاء حكومة قبرص التركية، تلك الدولة التي لا تعترف بها في العالم إلا تركيا، وقد تمّت إدانة تركيا دوليا مرارا، لكن مجلس الأمن لم يقرّر التحرّك تحت الفصل السابع وحشد الجيوش لحرب تركيا وتحرير قبرص.
نموذج ثالث هو التجارب النووية الهندية، ثم الباكستانية. اكتفى المجتمع الدولي بفرض عقوباتٍ أقرب للرمزية، من دون تحرّك جاد بمسألة بهذه الحساسية، بل ما زالت قضية كشمير عالقة بين الدولتين.
نموذج رابع نزاع تركيا بشأن سدودها على نهري دجلة والفرات، وما سببته من تراجع للتدفق في سورية والعراق، على الرغم من وجود اتفاقات قديمة منذ الثمانينيات، ولم يحدث أي تحرّك عالمي جاد في ظل اختلاف موازين القوى والعلاقات السياسية بين تركيا ودول المصب.
في المقابل، اختلف التعامل تماماً في حالاتٍ أخرى، مثل غزو يوغوسلافيا كوسوفو، أو قمع معمر القذافي الثورة الليبية. في الحالتين، نظم حلف شمال الأطلسي (الناتو) حملات عسكرية ضاربة انتهت بمقتل القذافي ومحاكمة سلوبودان ميلوسوفيتش. لكن التعامل نفسه مع القذافي لم يمتد إلى سورية حيث بشار الأسد، لأسبابٍ سياسيةٍ بحتة، على الرغم من التطابق التام بين الحالتين على المستويين السياسي والقانوني. وفي المجمل، "القانون الدولي" أو "التحكيم الدولي" مفهومان مختلفان تماما من حيث إلزاميتهما عن المفاهيم المناظرة في القانون المحلي.
لا يعني ما سبق أنه لا بديل عن القوة البحتة، لأنه، مرّة أخرى، لهذا الحل بدوره حدوده السياسية والعسكرية. وبوجه عام، مصر والسودان وإثيوبيا دول نامية، كلها تستورد سلاحها، ويعتمد اقتصادها على الارتباط بالاقتصاد العالمي. ونعرف جيدا، نحن العرب، نموذج صدام حسين، حين غزا الكويت مزهوّا بقوته وجيشه ونفطه. وكان يظن أن رد الفعل العالمي سيكون سياسيا فقط، لكن العالم تحرّك عسكرياً وتم تدمير قواته وإجبارها على الجلاء من الكويت، ثم حاصر البلد حصاراً انتهى بالنهاية المعروفة. قبلها، كان صدّام أيضا قد حارب إيران المنهكة ذات الجيش المشتت بعد الثورة، ساعيا فقط إلى انتزاع ما قال إنها حقوق بلاده في شط العرب، وحظي بدعمين، غربي وعربي، ضخمين، إلا أن إيران وجدت أيضا من يدعمها سرّا، وما أراده صدّام غزواً خاطفاً تحوّل حربا مهلكة استمرت سبع سنوات انتهت بالاتفاق على العودة إلى الأوضاع السابقة عليها.
إذن، ليس السؤال حول الإمكانية العسكرية لضرب مصر سد النهضة، بل عمّا يمكن أن يحدُث بعدها، خصوصا أن إثيوبيا ذات خبرة في الحروب الممتدة عقودا. ولكن في الوقت نفسه، لا شعب يمكن أن يصل إلى لحظة التهديد الجاد لوجوده، من دون أن يدافع عن نفسه، مهما بلغت المخاطرة.
لا أزعم هنا امتلاكي ناصية الخيار الصائب، أو اليقين بأي السوابق الدولية هو الأقرب لإسقاطه على تلك الحالة، لكن ما يمكن تأكيده مدى تعقيد أمثال هذه النزاعات وتركيبها، وطبيعة تفاعلاتها البطيئة، وعدم صحة الاعتماد على رؤى اختزالية للقفز إلى نتائج درامية قاطعة، كالقول إن القضية انتهت منذ زمن، وعلينا الاستسلام، أو القول إن عدم إعلان الحرب الآن وفورا خيانة، وغيرها من شعبوياتٍ لا تدعم حقا، ولا تفيد نقاشا عاما.