حربٌ فاترةٌ تهدّد العالم
يثير تشكيل تحالف حقيقي يضم روسيا والصين قلقاً في أروقة السياسة في الولايات المتحدة، حيث يعيد إلى الأذهان الفترة الشيوعية، عندما كانت للصين والاتحاد السوفييتي عقائد تشكّل أرضية جيدة لتقاربٍ استراتيجيٍّ في مواجهة "الإمبريالية"، لكن الأفكار الشيوعية التي كانت الصين والاتحاد السوفييتي يتبنيّانها وتضعهما في عداء دائم مع الولايات المتحدة، بما تمثّله من أفكار رأسمالية، لم يجعل التحالف الصيني والسوفييتي بتلك القوّة، بسبب أولويات تخص البلدين، واعتبارات أيديولوجية مبنيّة على فهم كل منهما الماركسية وتطبيقها. وبعد الحرب الباردة، نبذت روسيا الأفكار الشيوعية، وارتضت نظاما سياسيا أقرب إلى نظم العالم الثالث التي تعتمد على شخص ذي كاريزما وجنوح قومي وقوة بوليسية وعسكرية كبيرة ليحكم أطول فترة ممكنة، مع ترك قضايا التنمية في مستوياتٍ دنيا. أما الصين فقد أجرت تطويراً على سياساتها، واعتمدت نوعا من القرارات البديلة التي لا تجد غضاضةً في تبنّي أساليب رأسمالية تطلق الحرّية لاقتصادها، مع التمسّك بنظام سياسي، اقترحه النموذج الشيوعي، يعتمد على الحزب القوي ذي العقائد المتصلّبة. تغيّر حال البلدين في الاقتصاد والسياسة، ولكنهما ما زالا يجِدان في الولايات المتحدة ندّاً عنيداً، وما زالت الولايات المتحدة تقلق من تقاربٍ وثيق قد يربطهما.
شهدت فترة الرئيس الأميركي ترامب أدنى مستوىً للعلاقات مع الصين، وانفراجة ضئيلة مع روسيا٬ وقد تكون علاقاته الملتبسة مع بوتين قد منعت تقارباً يصل إلى حد التحالف القوي بين روسيا والصين. وبانتهاء عهد ترامب، لم يطوّر بايدن صلاته مع الصين، ولكن تدهوراً كبيراً جرى في العلاقات مع روسيا، وصل إلى أعلى مستوى بعد الغزو الروسي أوكرانيا. وكان بايدن قد عكف، منذ لحظته الأولى في البيت الأبيض، على عقد تحالف غربي في مواجهة الصين وروسيا، وجرى تطويره لاحقا. وقد شكّل الغزو الروسي لأوكرانيا مناسبة جيدة لتُظهر الصين بعض الدعم لبوتين. وساهمت العقوبات المتزايدة التي فرضها الحلف على روسيا في مزيدٍ من اقترابها العسكري والدبلوماسي والسياسي مع الصين، وقد سارت إيران أيضا خطواتٍ للتقرّب من البلدين. ويمكن أن تلعب هذه الكتلة دوراً يعيد إنتاج حالة الاستقطاب الكبرى. تمضي أشهرٌ من الترقّب الدولي انتظارا لما قد يقوم به كل طرف، مع ما يجرّه هذا الترقّب من ركود واستقطاب وطوفان في الحالة العسكرية الدولية.
كان الاتحاد السوفييتي في موقع القيادة سابقا، وكانت الصين تقف على درجةٍ واحدةٍ خلفه. تغيّر هذا الترتيب حاليا، فمن شأن أي تحالفٍ لها مع روسيا أن يضع الصين في موقع القيادة بالضرورة، فهي البلد ذو النمو الاقتصادي الأكبر، وصاحب النظام السياسي الأكثر استقراراً، رغم الأساليب ذاتها التي تعتمد القمع والقفز فوق حقوق الإنسان وإلغاء الحرّيات.
وجود شكل من أشكال التكامل الاقتصادي الذي يحتاجه البلدان يمكن أن يكرّس الرغبة في التحالف، باعتبار الصين بلدا مستهلكاً للطاقة، يستورد معظم ما يحتاجه من النفط والغاز من الخارج، فيما تعد روسيا بلدا منتجا للطاقة، وأجبرتها العقوبات المفروضة عليها من الغرب على البحث عن أسواق بديلة، فبرزت الصين خياراً مثالياً. وإذا أخذْنا في الاعتبار المناورات العسكرية المشتركة بين روسيا والصين في العامين الماضيين، يمكننا النظر إلى المشهد الكلي أنه يشكل نواة قوية للحلف الذي تجد فيه الولايات المتحدة خطراً عليها، علماً أن أميركا لعبت، ولا تزال، دوراً غير مباشر في نشوء هذا الحلف، فسنوات القطيعة والعداء بين ترامب والصين، واستمرار حالة شبيهة في فترة بايدن، وتمترس أعضاء الحلف الأطلسي في وجه روسيا، وسياسة الحماية الجمركية التي تتبنّاها الولايات المتحدة ضد المنتجات الصينية، وإجراءات سياسية واقتصادية ودبلوماسية أخرى، يمكن تؤدّي جميعا إلى تعزيز هذا الحلف بشكل واقعي، يتجاوز حالة الحرب الباردة إلى حرب فاترة يمكن أن تضرّ بجميع الأطراف.