حربٌ في العلن وأخرى في الخفاء
عندما صرّح الرئيس الأميركي، جو بايدن، إن اسرائيل بدأت تفقد الدعم العالمي، وأن حكومتها هي الأكثر تطرّفًا، وأن على نتنياهو إدخال تغييرات على تركيبتها، تناقلت وكالات الأنباء ووسائل الإعلام ومواقع التواصل قوله باهتمام كثير مصحوب بالتساؤلات، وراحت التحليلات تفكّك مدلول هذا التصريح، وتتوقّع ردّ الفعل الإسرائيلي عليه، واحتمالات ترجمته فعليا في مجريات الأحداث في الحرب الوحشية على غزّة. كان تصريحا لافتا فعلا، ومؤشّرا إلى تغيّر ما في رؤية واشنطن لهذه الحرب والمزاج العالمي الذي أحدثته، لا فقط تجاه الحرب، بل أيضا تجاه الولايات المتحدة نفسها، التي تخلّت، في هذه الحرب بالذات، حتى عن اللغة الديبلوماسية والتبريرات التي حرصت عقودا على ترويجها وتكرارها والاحتماء بها في وجه الاتهامات المتواترة لها بدعم أعمى لإسرائيل التي يصنّفها القانون الدولي بوضوح قوة احتلال وآخر احتلال يمارس التفرقة العنصرية والغطرسة في عالم اليوم، عالم يصفه الغرب بالعالم "الحرّ"، أو هكذا يصوّرونه، ولكن أفعاله تخوّن أقواله، وتتناقض معها تناقضا صارخا مخجِلا.
هل كان لهذا التصريح المدوّي ما بعده، كما توقعت أقليّة صغيرة وتمنّى كثيرون؟ تفيد الوقائع بأن تصريحات بايدن بقيت في خانة الكلام، ولا شيء غير الكلام. عبارات منتقاة سايرت المزاج العالمي وداخل الولايات المتحدة نفسها، بل وحرص قائلها، في نصفها الآخر الذي لم يحظ باهتمام كاف، على التأكيد على خوفه من خلالها على استقرار الدولة اليهودية وبقائها وعلى أمن اليهود في العالم، وفصل بشكل بهلواني بين ما اعتبرها "حرب نتنياهو" و"حرب إسرائيل"، منتهيا إلى خلاصة مفادها أن الحرب على غزّة بهذا الشكل ليست في مصلحة إسرائيل، فكرة وكيانا، بل إنها تهدّد وجودها أصلا.
قال محلّل إسرائيلي يتحدّث العربية، من المعروفين بالاستفزاز، في ردّ على سؤال مذيع عن فهمه تصريح بايدن، إن اسرائيل دولة ذات سيادة، لديها حليفة قوية هي الولايات المتحدة، تتشاور معها، ولكنها لا تفعل بعد التشاور إلا ما يخدم مصالحها أولا وأخيرا، وأضاف "أمام الرئيس بايدن حملة انتخابية.. وفهمكم كفاية".
تتواتر المواقف والتصريحات المرتبكة من واشنطن، لتنشئ تصوّرات عن ضيق الإدارة الأميركية ذرعاً بابتزاز حكومة نتنياهو لها
يعي الرئيس الأميركي جيدا كيف تؤثّر الحرب على غزّة على الرأي العام الداخلي الذي يمثل فيه العرب والمسلمون وزنا لا يستهان به، بل تشعر قطاعاتٌ أخرى في المجتمع الأميركي، من غير العرب والمسلمين، بغضب كبير من وقوف أميركا لا فقط حليفا لإسرائيل لا يتزعزع، بل طرفا متواطئا وشريكا في الحرب هذه المرّة، بالسلاح الذي يتدفّق على إسرائيل منذ اليوم الأول للحرب بل ربما قبل ذلك. سلاح بالمليارات ودعم إعلامي واقتصادي ضخم من أموال دافعي الضرائب الأميركيين، وكره متعاظم تجاههم في أنحاء متفرقة من هذا العالم المتفجر، يربط أحيانا كثيرة بلا تمييز بينهم وبين توجهات حكومة بلادهم.
تشخيصٌ هو الأقرب إلى حقيقة العلاقة المركبة بين واشنطن وتل أبيب، وإلى حقيقة الوضع الانتخابي غير المريح الذي يدرك الرئيس الأميركي جيّدا عوامل التأثير فيه، صعودا أو هبوطا. ولذلك لم يفاجأ كثيرون عندما بدأ مجلس النواب الأميركي، بعد أقل من 36 ساعة على تصريحات بايدن اللافتة، فتح تحقيق لعزل الرئيس على خلفية "أنشطة تجارية خارجية" مثيرة للجدل لابنه هانتر بايدن، يتداولها الإعلام منذ أشهر عديدة، من دون أن تدخل فعليا دائرة المحاسبة القانونية، والرسالة واضحة طبعا توقيتًا وجعجعة، وبصمات ضغوط اللوبي لا تخطئها العين ولا العقل. أما منافسه الأشرس، دونالد ترامب، والذي لا يفتأ يتصيّد زلات خصمه وسقطاته، فقد دخل على خط هذه الحرب منذ البداية، باعتبارها أحد أهم العوامل التي ستحدّد هوية الرئيس الأميركي القادم في انتخاباتٍ وشيكةٍ مثيرة عام 2024، فلم يتردّد في تجديد دعمه الأزلي لإسرائيل، مؤكّدا أن "الصراع بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية يجب أن يستمرّ"، في ردّ واضح ينطوي على كثير من التحدّي لكل الدعوات العالمية إلى وقف إطلاق النار في غزّة!
وفي الوقت الذي تتواتر فيه المواقف والتصريحات المرتبكة من واشنطن، لتنشئ تارة تصورات عن ضيق الإدارة الأميركية ذرعا بابتزاز حكومة نتنياهو لها، وتبدّد تارة أخرى أيّ أمل في صحوة أميركية متأخّرة، تستمر شحنات السلاح الأميركي المتطوّر وبأنواعه المختلفة في التدفق على إسرائيل لتتجاوز مائتي شحنة تصبها إسرائيل في أرض (وسماء) قطاع صغير مزدحم مساحته 365 كلم2 لا غير. فهل من دليل أكثر وضوحا على أن الرئيس بايدن، وعبر مستشاريه، وبعدما اطّلعوا جميعهم على مؤشّرات الاتجاهات العامة للجمهور الأميركي، باع بضع كلمات مسكِّنة لملايين المناوئين لهذه الحرب في العالم، فيما استمرّ الدعم الفعلي بتكاليفه المرتفعة في التدفق كالعادة As usual ...؟
داخل إسرائيل نفسها، وداخل الحكومة تحديدا، مجرّد ظهور مؤشرات إلى خلاف جدّي مع الإدارة الأميركية مرفوض
أما داخل إسرائيل نفسها، وداخل الحكومة تحديدا، فإن مجرّد ظهور مؤشرات إلى خلاف جدّي مع الإدارة الأميركية مرفوض، رغم تداول أوساط سياسية وإعلامية حديثا عن اتصالات هاتفية عاصفة بين نتنياهو وبايدن، علق عليه الوزير في حكومة الحرب الإسرائيلية بيني غانتس بقولٍ يخفي غضبا كثيرا: ليس هذا الوقت المناسب لإحداث مشكلات وخلافات مع الإدارة الأميركية... تدعّمه صحيفة معاريف الإسرائيلية باستطلاع للرأي يظهر أن 36% من الإسرائيليين يروْن "أن سلوك نتنياهو تجاه الولايات المتحدة صحيح". ثم يصل مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان إلى تل أبيب لإطفاء النيران والتراشق عن بعد بين تل أبيب وواشنطن، وإن بقي في خانة التصريحات والتصريحات المضادّة، ولم يؤثر بعد على مجريات حربٍ داميةٍ دخلت شهرها الثالث، ولم يسمع سوليفان في إسرائيل كلاما جديدا غير نية مجلس الحرب الاستمرار فيها حتى "تحقيق نصر مبين"، ومتابعة تل أبيب انتقادات الديمقراطيين الأميركيين وخشيتها فقدان الدعم الشعبي الأميركي، ووقف إدارة بايدن التواصل علنا، وهو ما لن تسمح بحدوثه مهما كانت الوسيلة والثمن.
يبدو الثمن باهظا في واشنطن كما في تل أبيب: فوز الرئيس بايدن في الانتخابات المقبلة واستمراريته ونجاته من الملاحقات القانونية، بسبب ملفات ثقيلة يتم فتحها بين الآونة والأخرى... أم فوز نتنياهو الذي ارتبطت هذه الحرب باسمه، وبمصيره ومصير عائلته وبملفاته الثقيلة جدا هو أيضا.
من العبث والسخرية أن تكون حسابات السلطة الفردية الضيقة واحدة من أهم الرهانات في هذه الحرب المتوحّشة التي يقف العالم أمامها عاجزا ومصدوما وخائفا، ولكنها إحدى حقائق السياسة في كواليسها المظلمة. ولن يطول الوقت قبل أن تبوح الأحداث بمآل شخصين وتيارين يُمسكان بأهم خيوط الحرب التي ستحسم فيهما وفي المشهد الإقليمي والعالمي ككلّ.