حرب أوكرانيا إذ تخلط أوراق التحالفات الدولية
مضت سبعة أشهر على بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، والمؤشّرات الميدانية والدبلوماسية ترجّح امتداد الحرب سنوات، ما يعني استمرار تداعياتها على المستويات كافّة، السياسية والاقتصادية والإنسانية. ويمكن ملاحظة الانعكاس على تحالفات الدول وشراكاتها، سواء ما هو قائم منها، إذ يزداد بعضها متانةً، ويضعف بعضها الآخر، أو من خلال نشوء شراكات جديدة، في ضوء المصالح والأولويات المتبدّلة، فضلاً عن "فرص" تتيحها الحرب، اقتصادياً واستراتيجياً، في مشهد يزخر بالتناقضات والمفارقات التي يتّسم بها عالم العلاقات الدولية المعقّد.
منذ أواسط تسعينيات القرن الماضي، حظيت إيران بدعم روسيا الصريح لبرنامجها النووي، حين وقّع الجانبان اتّفاقاً، في يناير/ كانون الثاني 1995، يقضي ببيع إيران مفاعلات نووية لبناء محطة بوشهر الكهرذرية. تطوّرت الشراكة النووية بينهما، وصولاً إلى مساندة موسكو المساعي الإيرانية لإحياء المفاوضات مع الغرب، من أجل التوصّل إلى اتفاقٍ بشأن برنامج طهران النووي، ورفع العقوبات الأميركية والأوروبية عنها. لكن، في الوقت الذي تستخدم روسيا ورقة الطاقة بشكل حاسم، وتقطع إمدادات الغاز عن الدول الأوروبية للضغط عليها، بغية الحدّ من دعمها أوكرانيا وإرغامها على التفاوض مع الروس، تعلن إيران عن استعدادها لمساعدة أوروبا، في تجاوز أزمة الطاقة الحالية، في حالة نجاح المفاوضات النووية، في محاولة للاستفادة من تداعيات الحرب.
أمّا الهند، وعلى الرغم من مصلحتها المشتركة مع الولايات المتحدة، في تطويق التمدّد الصيني الهائل في آسيا والمحيط الهندي، ومن أنّها "شريك دفاعي رئيسي" وفق تصنيف واشنطن، ويربطهما اتفاق عسكري منذ عام 2016، يتيح لهما الاستخدام المتبادل للقواعد العسكرية لأغراض الصيانة والتزود بالإمدادات، إلّا أنّها لم تتبنَّ المقاربة الأميركية للحرب الأوكرانية. فضّلت الهند عدم اتّخاذ موقف واضح، والتمسّك بخطاب دبلوماسي عام، عن احترام القانون الدولي وحل النزاعات بالوسائل السلمية، ورفض استخدام القوة. لكنّها امتنعت عن التصويت على قرارات الأمم المتحدة، التي تدين العدوان على أوكرانيا، وتطالب روسيا بالانسحاب الفوري، وبعدما فرضت واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون عقوباتٍ اقتصادية ومالية مشدّدة على موسكو، تضاعفت كميات النفط الروسي الذي تشتريه الهند مستفيدةً من الأوضاع الناجمة عن العقوبات، حتى أنّ التعاملات المالية بينهما باتت تجري بالروبل والروبية. على ذلك، يمكن لمضيّ نيودلهي بعيداً في وجهتها الروسية أن يؤثّر سلباً على شراكتها مع واشنطن (الداعمة عسكرياً ودبلوماسيا لأوكرانيا في وجه روسيا). هذا سيزيد من حظوظ الصين الاقتصادية والعسكرية في المحيط الهندي وجنوب آسيا، لكسر انفراد القوة البحرية الأميركية في تلك المنطقة، والإمعان في تطويق الهند، أبرز منافسيها في آسيا.
وصل الخلاف بشأن الحرب الأوكرانية إلى أروقة حلف شمال الأطلسي (الناتو)
على صعيد آخر، جاء التضييق الأميركي على روسيا في مصلحة الصين، خصم واشنطن الصاعد بثبات لينافسها على المسرح الدولي. فقد لعبت الأزمة الأوكرانية دوراً مهما في تعزيز العلاقات بين موسكو وبكين، والعقوبات التي فُرِضت على روسيا، من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، دفعتها إلى تمتين الروابط الاقتصادية مع الصين. صحيح أنّ المصالح الروسية هي الدافع الرئيس لهذا التطور في العلاقات الثنائية، لكنها أتاحت للصين توسيع نفوذها داخل الأسواق ومصادر الطاقة الروسية، وفي مقدمها الغاز الطبيعي. من جهة أخرى، جذبت أوكرانيا الانتباه الغربي بعيدًا عن أنشطة بكين في بحر الصين الجنوبي، وهي المنطقة المرشّحة لأن تكون مسرحاً لتصعيد عسكري متزايد، يصعب التكهّن بنتائجه.
لقد وصل الخلاف بشأن الحرب الأوكرانية إلى أروقة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، حيث إنّ مواقف الدول الأعضاء متباينة، في قراءتها السياسية وكذلك من ناحية المساهمة في دعم أوكرانيا، ومستوى هذا الدعم. يمكن ملاحظة ذلك من خلال معاينة موقف تركيا، صاحبة ثاني أكبر جيش في الحلف، بعد الولايات المتحدة.
هل تعيد حرب أوكرانيا تشكيل النظام الدولي، بعد أن خلطت أوراق تحالفاته؟
يدعم الحلف أوكرانيا رسمياً، وهو ما تعبّر عنه بوضوح تصريحات أمينه العام، ينس ستولتنبرغ. في المقابل، يؤكّد الرئيس التركي أردوغان أنّ بلاده حافظت على سياسة التوازن بين روسيا وأوكرانيا، وأنها ستواصل اتباع سياسة التوازن هذه، متهماً الدول الغربية بـ"اتباع سياسة تقوم على استفزاز" روسيا، وفق تصريحات أدلى بها خلال زيارته إلى بلغراد في 7 سبتمبر/ أيلول الحالي. على الرغم من ذلك، ومن رفض تركيا المشاركة في فرض عقوبات على روسيا، إلا أنّها تزود القوّات الأوكرانية بطائرات مسيَّرة من دون طيّار. تركيا التي ترى في الولايات المتحدة حليفاً يجب الحفاظ على صداقته، وتدرك أهمّية ذلك في تعزيز المكانة الإقليمية التي تطمح إليها، تحرص في الوقت عينه على إيجاد نوع من التوازن في علاقاتها الدولية، بما يخدم مصالحها بالدرجة الأولى. ومما يكرّس هذا التوجّه لدى الساسة الأتراك، تقلّب المواقف الأميركية تجاه العديد من الملفّات التي تعدّ من المحركّات الأساسية في السياسة التركية، وفي مقدّمتها الملفّ الكردي، داخل تركيا وخارجها.
يرى بعض منظّري العلاقات الدولية أنّ "النظام الدولي"، بتحالفاته وخصوماته، يبقى متوازناً ما دامت المصالح والقوى النسبية للدول الرئيسية فيه مستقرّة، بصرف النظر عن هويات المتحالفين والمتخاصمين وتبدّل مواقعهم، وما يخلخل النظام، ويضع الأسس لنظام آخر هو صراعات الهيمنة، حيث تليها إعادة هيكلة إقليمية واقتصادية وديبلوماسية، تكون أكثر انسجاماً مع التوزيع الجديد لنسبة القوى وفق نتائج الصراع. فهل تعيد حرب أوكرانيا تشكيل النظام الدولي، بعد أن خلطت أوراق تحالفاته ومصالح أطرافه؟