حرب إرادة الشعب الفلسطيني
لستُ من المتفائلين الذين تحملهم الحماسة إلى حدّ الاعتقاد بأن الجولة الحالية من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ستحقّق النصر للفلسطينيين، وتعيد لهم حقوقهم المسلوبة منذ سبعة عقود ونيف، لكنها بكل تأكيد ستعيد قراءة مسلّماتٍ كثيرة كانت تحكُم منطق هذا الصراع، وتعيد النظر في كثير من قواعده، بل وموازين القوى التي كانت تحكمه. فما حدث يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي سيبقى تاريخاً مفصلياً في هذا الصراع، ما سيأتي من بعده لن يشبه، بكل تأكيد، ما سبقه على مر تاريخه الطويل نسبياً. لقد فاجأت المقاومة، بكل فصائلها المسلحة، وفي مقدمتها كتائب عز الدين القسام، العالم، بل وحتى الفلسطينيين أنفسهم، الذين يدركون قبل غيرهم أن مقاومتهم لا تملك من الأسلحة ما تواجِه به إسرائيل المعزّزة بأقوى الأسلحة وأحدثها التي تزوّدها بها دول الغرب، بقدرتها الخارقة على إحداث أكبر صدمةٍ في تاريخ الكيان الصهيوني، لا تشبه ما سبقها من صدماتٍ، بما فيها تلك الكبرى التي حدثت قبل خمسين عاماً يوم العبور الكبير في 6 أكتوبر/ تشرين الأول 1973.
صحيح أن الهجوم الكبير يوم 7 أكتوبر، بكل ما حمله من صدمة ومفاجآت للعدو وللأنصار، لن يغيّر ميزان القوى الإجمالي مع إسرائيل، ولن يمكّن المقاومة الفلسطينية من هزيمة إسرائيل في اختبارٍ مباشر لقوتها، بل وأدّى إلى الانتقام الهستيري الذي تقوم به إسرائيل اليوم ضد المدنيين العزّل الأبرياء، بدعم وحماية من حلفائها الغربيين، لكنه، بكل تأكيد، سوف يشكّل، على مر التاريخ، تذكيراً مأساوياً لإسرائيل وأنصارها والمطبّعين معها بأنها ليست منيعة بالقدر الخارق الذي كانوا يتوهّمونه، وأن رغبة الفلسطينيين في تقرير المصير لا يمكن تجاهلها تحت كل مسمّيات التطبيع واتفاقياته المشؤومة، وأسقط بضربة واحدة مباغتة كل نظريات التفوّق الاستخباراتي الإسرائيلي المبالغ فيها لترويج برامجها وتقنياتها التجسّسية. والدرس الكبير اليوم من تحطيم هذه الأسطورة أن الأمن والأمان والاستقرار تبنيه الدول المحترمة، عندما تحترم حقوق شعوبها وحرياتها، وليس بالتجسس عليها وإحصاء أنفاسها. لقد أثبتت التطوّرات الجارية أن إبرام "اتفاقات تطبيع"، مع دول عربية لم تخض قط حرباً ضد إسرائيل، ولا حدود مشتركة لها معها، أو التي كان جارياً تداولٌ في إبرامها مع السعودية، ليست الطريق الذي يؤدّي إلى السلام ويضمن الأمن والاستقرار لدول المنطقة وشعوبها، وكل سعي في هذا الاتجاه إنما هو محاولة للقفز على الواقع الذي لا يرتفع، لأن المعني بالسلام، أولاً وأخيراً، هو الشعب الفلسطيني، لأنه هو الضحية منذ قامت الدولة الصهيونية على كامل أرضه التاريخية.
الظلم التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني، هو أعنف وأطول ظلم يتعرّض له شعب في عالمنا المعاصر منذ أكثر من 75 سنة
المواجهة العنيفة والمباشرة التي فتحتها المقاومة مع الكيان الصهيوني لن تنتهي قريباً، لأن إسرائيل، مدعومة من حكومات الغرب، وفي مقدمها حكومة الولايات المتحدة التي أعلنت، منذ البداية، وقوفها بحزم خلف أي شيءٍ تقرّر إسرائيل القيام به، متجاهلة كل الأصوات الداعية إلى التهدئة أو الاعتدال في الانتقام، سوف تبذُل قصارى جهدها لحرمان المقاومة من مجرد الظهور بمظهر النجاح التكتيكي، بل وسوف تسعى، كما تعبّر عن ذلك تصريحات الساسة الإسرائيليين، إلى إبادتها أو إخراج مقاتليها من غزّة كما فعلت عام 1982 مع المقاومة الفلسطينية في بيروت، مع الاختلاف الكبير في السياقات، لأن المقاومة التي أظهرت صموداً بطولياً لن تستسلم مهما اشتدّت واتسعت دائرة الانتقام الإسرائيلي، ومهما طالت دورة المعاناة والظلم الذي طبع التغريبة الفلسطينية منذ النكبة في 1948. فما لا يجب أن تنسينا إياه هذه المواجهة، بكل مآسيها وآلامها التي يتكبّدها الفلسطينيون الأبرياء في غزّة المحاصرة التي لم يتوقف القصف فوق رؤوس أهلها منذ السبت الماضي، أن جوهر المشكل هو الاحتلال الإسرائيلي فلسطين، والظلم التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني، وهو أعنف وأطول ظلم يتعرّض له شعب في عالمنا المعاصر منذ أكثر من 75 سنة.
إن دورة سفك الدماء الجديدة التي تخوضها إسرائيل اليوم، في تجاوز مفرط لكل قواعد الاشتباك التقليدي، وكل أخلاقيات الحروب، وكل المواثيق والاتفاقيات الدولية، تؤكّد، بشكل محزن، أن القوة في السياسة الدولية أهم من العدالة. ولكنها، في الوقت نفسه، تفتح أعين العالم على أن إسرائيل دولة توسّعية غاصبة عنصرية، تقوم على سفك الدماء، وتذكّرنا بأن سكان غزّة يعيشون في "غيتو" كبير، هو سجن مفتوح عقوداً فرضته عليهم قوة استعمارية غاشمة اسمُها إسرائيل. كما أن المساندة الغربية المعلنة للانتقام الإسرائيلي، بالبشاعة والقسوة اللتين نتابعهما، بل ومعاقبة الشعب الفلسطيني بمنع المساعدة والدعم الغربي عنه، وقطع الماء والكهرباء والغاز عن سكّان غزّة المحاصرة، والتجاهل المتعمّد، من الإعلام الغربي، للسياق الأوسع الذي تحدُث فيه كل هذا التجاوزات، ببشاعتها المفزعة، كلها أسبابٌ تدفع الفلسطيني إلى الشعور بأنه لا يحظى بأي اهتمام في العالم الغربي، وليس أمامه من خيارٍ سوى المقاومة لردع القوّة التي تُستخدم بشكل روتيني ضدّه. لقد آن الأوان أن يضع الغرب حداً لنفاقه، عندما لا يفتأ يذكّرنا، كل مرّة، بتعهدات الحكومات الغربية، وفي مقدمها الإدارة الأميركية، تجاه "حلّ الدولتين". وفي المقابل، تضخ مليارات المساعدات للدولة الواحدة القائمة على أرض الواقع، دولة إسرائيل، وتتغاضى عن التقتيل اليومي للفلسطينيين واعتقالهم، وقمعهم، ومحاصرتهم، والتنكيل بهم، وتجويعهم كما يحدُث اليوم مع كل أنواع جرائم الحرب التي ينفذها الاحتلال على الهواء مباشرة، وعلى مرأى ومسمع من العالم، بل وبدعم ومساندة من الغرب وحكوماته.
أظهرت المقاومة الفلسطينية صموداً بطولياً، وهي لن تستسلم مهما اشتدّت واتسعت دائرة الانتقام الإسرائيلي
لكن ما يجب أن لا ينساه الجميع أن ما يحدُث اليوم في غزّة الجريحة سبق أن عاشته مراراً وتكراراً خلال عملية الرصاص المصبوب عام 2008، ومرّة أخرى مع عملية الجرف الصامد عام 2014، وتكرّر على نطاقٍ أصغر عام 2021 . وقد أدّت كل هذه الهجمات إلى مقتل عدة آلاف من المدنيين (أكثر من ربعهم من الأطفال والنساء)، وأدّت إلى زيادة فقر السكان المحاصرين في غزة. وقبل ذلك، ومنذ 16 سنة وإسرائيل تفرض على سكانها حصاراً كاملاً من البرّ والبحر والجو، حتى حوّلت القطاع كله إلى أكبر سجنٍ مفتوح في العالم، تحرم سكانه من أبسط شروط الحياة الكريمة، ومن كل أبسط حقوقهم الإنسانية في التطبيب والتنقل، لكن لا شيء من كل ما حصل قرّب إسرائيل من التوصّل إلى حلٍّ دائمٍ وعادلٍ يضمن لها الأمن والاستقرار. وما يحدُث اليوم في غزّة، من انتقام بشع من سكانها الأبرياء، لن يؤدّي إلى نتيجةٍ تُذكر، حتى لو احتلت إسرائيل القطاع أو محته من الخريطة أو رمته في البحر، كما كان يتمنّى ذلك إسحاق رابين، من أجل القضاء على روح المقاومة عند الفلسطيني، لأن إرادة الشعب الفلسطيني المتطلّع إلى التحرّر والاستقلال لم تُكسر طوال 75 سنة من الصراع المفتوح مع عدوٍّ مدعوم من أغلب حكومات الغرب، ولن تُكسر اليوم مهما طالت الحرب واشتدّت المعاناة، فما تخوضه المقاومة اليوم ليست حرباً عابرة، وإنما هي حرب إرادة مستمرّة منذ سبعة عقود، وما لم تتحقّق هذه الإرادة لن يكون هناك لا أمنٌ ولا استقرار ولا سلام حقيقي.