حرب الجميع ضد الجميع في لبنان
لبنان الآن ساحة حربٍ أخرى، بعد حروبٍ مهولة خيضت فيه. هي ليست حربا وطنية، أو أهلية. إنها حرب الجميع على الجميع. وهي حربٌ فوضوية، تشبه فقدانه "توازنه" السابق. وقياساً إليها، تبدو حروب الطوائف الدموية التي مرّت عليه منضبطةً، موزونةً، منتظمةً، مهيأة لموازين قوى جديدة.
تجاوز لبنان كل هذه الحروب، ودخل في أتون نفسه ضد نفسه. طبيعي الآن، مثلاً، أن يصطدم شيعة وسنة، بالسلاح، في منطقة خلدة، على مداخل بيروت، مع احتدام العصبيات الطائفية. فيُطلق الرصاص، ويسقط قتيل، ويُحرق مجمّع تجاري عن بكرة أبيه، ومعه مركز حزبي. ويُحتجز المواطنون الذاهبون إلى الجنوب ساعاتٍ في سياراتهم، ريثما "يهدأ" الاشتباك، أو تُفتح من أثنائه الطريق الجانبية، المسمّاة "بحرية". وكل الموضوع أن العشائر السنّية ترفض تعليق رايات عاشورائية، أي رايات شيعية، في أرضٍ يعتبرونها أرضهم.
تجاوز لبنان كل الحروب، ودخل في أتون نفسه ضد نفسه
ولكن للسبب نفسه، أي تعليق الراية العاشورائية، يتقاتل شيعة في ما بينهم، أي شيعة حزب الله وحركة أمل، في قرية لوبية الجنوبية. "أمل" تعتبر القرية هذه قريتها، وترفض أن يكون حزب الله هو المبادر إلى تعليق الرايات العاشورائية هذه، فتكون اشتباكاتٌ بالأيدي والصراخ والتدافع، يتلوه إطلاق نار يوقع قتيلا شاباً من "أمل".
بعيد ذلك، وفي قلب بيروت الغربية، في الحي السنّي الأشهر، طريق الجديدة، ثمّة اشتباك آخر، سنّي سنّي هذه المرّة، على درجةٍ عاليةٍ من العنف، ويمتد أكثر من يوم. بين أتباع سعد الحريري، وأتباع شقيقه بهاء، القادم من بعيد والطامح إلى احتلال مكانه داخل الطائفة. بصواريخ آر بي جي، بالرصاص أيضاً، بعد تدافش وعراك وتبادل الصراخ والشتائم، فيسقط القتيل من بينهما. ويشيع، في اليوم التالي، بالرصاص والصواريخ.
المسيحيون الموارنة أخيرا. بعد عرض عسكري رمزي تنظّمه "القوات اللبنانية"، في ذكرى اغتيال أيقونتها بشير الجميل. يتوجه شبابها بالسيارات نحو مركز التيار العوني، المعروف بمركز ميرنا الشالوحي، في الضاحية الشرقية من بيروت. يستفزّون القاطنين في هذا المركز، فيخرج سلاح، وتُطلق النار، ولا إصابات. ولكن عراكاً آخر، وتبادل الاتهامات، وتشنّجات وبيانات وبيانات مضادّة.
إنها حرب بين أبناء الطائفة الواحدة، التابعين لزعامات راسخة. الشيعة في "الثنائي الشيعي"، السنّة في بيت الحريري، الإخوة الأعداء، ورَثة رفيق الحريري. والمسيحيون الملتزمون بميثاق شرف واحد، عنوانه "أوعى خيَّك" المسيحي "القواتي" أو "العوني". أي انتبه إلى أخيك، احمه.
والملاحظ أن هذه العداوات، وما تجرّه من حروبٍ صغيرة، بمنتهى الصغر، تحيل المشتركين بها، أو المراقبين لها، إلى ما سبق من مثيلاتها خلال الحرب الأهلية. الشيعة و"حرب الأخوة" بين "أمل" وحزب الله، خلال السنوات الثلاث الأخيرة من الحرب الأهلية. عرفت بـ"حرب الشقيقَين"، على وقع فتاوى دينية تحمل أوامر بالقتل. وأودت بحياة مئات من أنصارهما (يُقال 800 قتيل. ولا تحقيق جدّيا أو معلنا حول ظروفها وعدد ضحاياها). وما كان لحرب "الإخوة" هذه أن تتوقف لولا الدولتان "الراعيتان"، إيران وسورية.
على الشاكلة نفسها، استحضرت واقعة ميرنا الشالوحي، حرب الموارنة، المعروفة بـ"حرب الإلغاء"، أيضاً عشية انتهاء الحرب الأهلية، بين "القوات اللبنانية" وميشال عون، بصفته قائدا وقائد الجيش وقتها، ومنصِّب نفسه رئيساً للحكومة .. وكانت على درجةٍ عاليةٍ من الدموية. ولم تنتهِ هي أيضاً إلا بفضل نهاية الحرب الأهلية، وخسارة المسيحيين لها.
عداوات، بما تجرّه من حروبٍ صغيرة، بمنتهى الصغر، تحيل المشتركين بها، أو المراقبين لها، إلى ما سبق من مثيلاتها خلال الحرب الأهلية
وأيضاً: بعد كل واحد من هذه الاشتباكات، تنْتَصب قامة "زعماء" هذه الطوائف المتناحرة، في ما بينها وبين بعضها، لتبعث رسائل "تهدئة" إلى أتباعها. سعد الحريري، الثنائي الشيعي، سمير جعجع، جبران باسيل .. كلٌ على طريقته يُنكر الصراع، يحيله إلى مصادفةٍ كئيبة، وينظم مع "الخصوم" الطارئين حملات "ضبط" على ذبابهم الإلكتروني، كي يسكتوا، كي يهدأوا، بعدما "وصلت الرسالة"!
لكنهم لا ينتبهون، أولئك "المسؤولون"، أو إنهم يعتقدون أن لا أحد ينتبه إلى أنهم هم أنفسهم منخرطون في صراعاتٍ في ما بينهم. ليس بين الخصوم، التقليديين وحسب، إنما بين الحلفاء و"الأصدقاء". وكل يوم إشارة جديدة، من عيّناتها: ميشال عون ضد نبيه برّي، جبران باسيل ضد حزب الله، سمير جعجع ضد سعد الحريري، .. إلخ. مثل خلية ذئاب تَتَناتش نصيبها من الغنائم، لا تذوق الراحة، فائقة الشجاعة في الملِمّات.
ساحة حربٍ أخرى تدور في المصارف، وبينها وبين أطراف أخرى: حرب رئيس المصرف المركزي ضد السياسيين الذين يطالبونه بالاستقالة، بعدما كان "يهندس" سرقاتهم. ثم حرب المصارف ضد المودعين الصغار والمتوسطين، بعدما نجحت تلك المصارف بـ"إنقاذ" الحيتان من بينهم. وتمتزج هذه الحرب بأخرى، عندما تشكّل المصارف جبهةً واحدةً مع أولئك الحيتان. والاثنان يطلقان على الشعب نيران الدولار والعوز والقلّة، بهمّةٍ عالية. خذْ هذا المثل "التافه" من عوارض هذه النوعية من الحروب: آخر السرقات الموصوفة، نالت من مساعدات سيريلانكية بمئات الكيلوغرامات من الشاي السيلاني الأصلي للشعب اللبناني المنكوب. وعلى يد من هذه السرقة؟ رئيس الجمهورية، وقد وزّعه على حرسه الخاص، ولم ينْكر. إنما أصدر بياناً رسمياً يؤكّد ذلك.
الفراغ يدخل من معضلة العجز عن قيام حكم، أو ممارسة الحكم. ولا معنى لأي شيءٍ آخر غير التناحر
ولا تنتهي اللائحة الطويلة من دون التوقّف أمام حروب أصغر، أقلّ مرئية، أقل استراتيجية. حرب اليوميات بين اللبنانيين، حرب الشعب ضد الشعب: تبدأ بالكهرباء المرهونة لإرادة أصحاب المولّدات الكهربائية، وهم من الشعب. بعدما صارت كهرباء "الدولة" من صنع الخيال. وتمرّ بحرب الدولار بين أبناء هذا الشعب، حيث يصبح "المواطن" صاحب المئتي دولار بطلاً في السوق السوداء للدولار. وهو من الشعب. ولا تنتهي عند القتلى برصاصٍ طائش، أو ضحايا المهرّبين اللصوص الذين يرسلون الهاربين إلى الموت، أو المراهقات اللواتي يغتصبن ويحرقن على يد شبابٍ "محمي" من مرجعيات الحيّ. أو حرب العشائر الدموية ضد العشائر، ذات المذهب الواحد، من أجل ثأر أو فدية أو سوق مخدّرات. وجميعهم من الشعب.
الحرب تستعر أكثر من أي يوم مضى. وقد يكون مكتوبا لها أن تزيد، خصوصاً بعد انفجار المرفأ.
هذه الحرب تستعر أكثر من أي يوم مضى. وقد يكون مكتوبا لها أن تزيد، خصوصاً بعد انفجار المرفأ. في هذه الحرب، يضيع المعنى، أو يحتجب. فيكون الفراغ، أي العنف والفوضى. ليس لأننا، مثلاً، نخوض كلنا حرباً ضد جيشٍ يحتل بلدنا، أو من أجل قضيةٍ نبيلة، تستحق التضحيات. بل لأن ميزان القوى لم يرسُ على أي "طرفٍ" من "الأطراف"، وإن كانت السيطرة معقودة على أحدهم. الفراغ يدخل من هذه الثغرة، من معضلة العجز عن قيام حكم، أو ممارسة الحكم. ولا معنى لأي شيءٍ آخر غير التناحر. وهو معنى ضعيف. لا يتقدّم، بل يدور حول نفسه. وما يصيبه بمزيدٍ من الضعف أن قراره وطاقته ليسا بيد ضحاياه أو جلاّديه، إنما تكمن في "خلفياته": أي الكباش الأميركي الإيراني. وبانتظار حسم وجهته، أي بانتظار الانتخابات الرئاسية الأميركية، يصبح هذا الوقت من النوع الضائع، فلنملأه بحرب الجميع على الجميع. لعلّنا بذلك نؤرّخ وقائع أخذنا كرهائن لهذا الكباش. لعلّنا نتذكّره لاحقاً، فيكون ثمّة معنى ما للامعنى.