حرب السرديات في رمضان
(1)
يُثار الجدل كل عام بشأن أعمال الدراما الرمضانية في مصر وسباق المسلسلات، أحيانا بسبب قضايا وموضوعات جريئة ومثيرة للجدل، وأحيانا بسبب ألفاظ ومشاهد لا تتناسب مع طبيعة شهر رمضان الكريم، وكل عام نقرأ مقالاتٍ وجدلا مطوّلا ونقاشات في مسلسلات رمضان. وكالعادة ترفع جهات أو أفراد دعاوى قضائية لوقف عرض مسلسل درامي بحجّة الإساءة لقيم الأسرة، أو بسبب أن أحد المشاهد أو الحوار يسيء لفئة أو طائفة ما. وكثيرا ما نرى نواب البرلمان ينتفضون ويصيحون ويخوضون حربا شعواء من أجل وقف عرض مسلسل يثير موضوعا جريئا، ولكن الجدل الأكبر بالنسبة للمهتمين بالشأن السياسي والشأن العام يكون حول المسلسلات ذات المحتوى السياسي الموجّه.
منذ عدة سنوات، يجري إنتاج مسلسلاتٍ فيها رسالةٌ موجّهة، تسرد روايةً أحاديةً من وجهة نظر السلطة بشكل أشبه بالتلقين المبطّن أو الصريح، وهناك بالتأكيد مقالات وكتابات عديدة عن الشركات الإعلامية الضخمة التي جرى تأسيسها خصيصا لهذه المهمة أو الرسالة، وجوهرها أن طاعة السلطة ضرورية ولازمة ووجوبية، وأن المعارضة للسلطة ستؤدّي، بالتأكيد، إلى الفوضى، هذا بجانب إظهار السلطة الحالية وأجهزتها وأشخاصها في صورةٍ شديدة الملائكية.
ولكن هذا ليس جديدا على الأعمال الفنية المصرية، فهناك على سبيل المثال الأعمال السينمائية التي أنتجها نظام يوليو 1952 لتشويه العهد الملكي وأسرة محمد على باشا، فجرى إلصاق كل الشرور بهم في معظم الأعمال الفنية التي أُنتجت في الستينيات، وكانت السردية أن مصر قبل 1952 كانت تعيش في الجاهلية والفساد والطغيان، وكأن لم تكن هناك مصر قبل 1952. وفي الأعمال الفنية جرى التشويه بشكل طفولي فج، حيث وُضع غمام على كل صور الملك فاروق على شريط الفيلم، وكانت الأفلام فيها "شخبطة" قبيحة في أي مشهد تظهر فيه صورة الملك المخلوع.
أحداث هامة كانت مصيرية جرى تشويهها في عقول كثيرين، مثل إضراب 6 إبريل 2008 أو ثورة 25 يناير 2011 وكل ما ترتب عليهما من أحداث
وليس ذلك جديدا في الأعراف المصرية، فمنذ آلاف السنين كان كل ملك أو فرعون يبدأ فترة حكمه بإزالة آثار كل من سبقوه وإنجازاتهم، جيدةً كانت أو سيئة، ثم يبدأ في كتابة إنجازاته على جدران المعابد. وتحمل السردية الدرامية الحالية وجهة نظر واحدة وخطا واحدا. وعلى الرغم من إذاعة بعض التسريبات المصوّرة سرّيا بعد كل حلقة، بغرض إثبات حقيقة السردية، إلا أن متابعين كثيرين أو ممن عايشوا الأحداث بأنفسهم يرون أنها مقتطعةٌ من السياق لتوصيل معنى معين. ولذلك من الطبيعي أن تثار تساؤلاتٌ حول حيادية السردية والخط العام للمسلسلات، فهي تحمل وجهة نظر السلطة الحاكمة فقط، فهل يستطيع حزبٌ سياسيٌّ إنتاج مسلسل يحمل سرديةً مختلفةً من زاوية أخرى حول الأحداث نفسها التي عايشناها جميعا؟ وهل يستطيع إنتاجٌ مستقلٌّ سرد وجهة نظر مغايرة بدون عقوبات أو حملات تخوين على الأقل؟ ومن له الحقّ في إذاعة أي تسجيلات أو تسريبات تحمل سردية مغايرة؟
(2)
في سياقٍ ليس بعيدا من السرد والأحداث المهمة والمحورية في السنوات الماضية، من المهم أيضا ونحن في شهر إبريل/ نيسان أن نذكر حدثا هاما مرّ علينا في مثل تلك الأيام، وهو يوم إضراب 6 إبريل (2008) في مصر، وهو اليوم الذي اعتبره كثيرون بمثابة شرارة أو "بروفة مصغّرة" لثورة يناير 2011، عندما انطلقت دعوة الإضراب من عمال مصنع المحلّة للغزل والنسيج في دلتا مصر، فتطوّرت تلك الدعوة، وتلقفها بعض الشباب المعارض وطوّروها إلى دعوة إلى الإضراب العام، احتجاجا على غلاء الأسعار والفساد المنتشر، ليستخدموا وسيلةً كانت جديدة وفريدة وقتها، لنشر تلك الدعوة إلى أكبر قدر ممكن من المصريين. وانتشرت الدعوة وقتها انتشار النار في الهشيم، ليكون حدثا احتجاجيا كبيرا مفاجئا للجميع، حتى لمن أطلقوا تلك الدعوة وقتها، فقد كانت الشوارع خاليةً تماماً من المارّة، ولم يذهب الطلاب إلى مدارسهم وجامعاتهم في ذلك اليوم، وتعطّلت كذلك منشآت عامة عديدة، فقد كان الجميع وقتها يعاني من الفساد وتضاعف الأسعار. وعلى الظهيرة، اعتدت قوات الأمن على عمّال الغزل والنسيج المعتصمين في مصانعهم في مدينة المحلّة، فتفجّر الوضع بين أهالي العمال والأمن، وتحوّلت مدينة المحلّة الكبرى إلى نموذج ثورة مصغّرة، كادت تنجح وتنتقل إلى مدن أخرى، ولكن القمع الشديد حال دون ذلك، وأدّى ذلك اليوم إلى ظهور حركة شبابية جديدة، وهي حركة السادس من إبريل، والتي كان لها دور محوري ورئيسي في إطلاق شرارة التظاهرات يوم 25 يناير/ كانون الثاني عام 2011.
يجري إنتاج مسلسلاتٍ فيها رسالةٌ موجّهة، تسرد روايةً أحاديةً من وجهة نظر السلطة بشكل أشبه بالتلقين
ولذلك، من المهم أن نسرد لأبنائنا وللأجيال القادمة ما عايشناه ورأيناه بأنفسنا، وسط ذلك الكمّ الضخم من المسلسلات والأعمال الدرامية التي تحمل روايةً قد تكون ليست دقيقة، أو ربما ليست حقيقية بالكامل، فأحداث هامة كانت مصيرية جرى تشويهها في عقول كثيرين، مثل إضراب 6 إبريل 2008 أو ثورة 25 يناير 2011 وكل ما ترتب عليهما من أحداث.
(3)
ضمن حرب الروايات والسرديات المتضاربة التي نعيشها قصة حقيقية حزينة ذات تفاصيل مخيفة، حدثت قبل أيام، وحولها غموضٌ كثير، إنه الخبر المفاجئ عن وفاة الباحث الاقتصادي، أيمن هدهود، والذي فوجئ الجميع بأنه كان مقبوضا عليه منذ يوم 6 فبراير/ شباط الماضي، وأنه جرى إيداعه في مستشفى الأمراض العقلية يوم 4 إبريل/ نيسان الحالي، وظلّ أهله يبحثون عنه من دون التمكّن من الوصول إلى مكانه، حتى جرى إبلاغهم من إدارة مستشفى الأمراض العقلية أنه توفي داخل المستشفى منذ فترة. التفاصيل مخيفة وغامضة وكذلك الاحتمالات، فبشهادة المقرّبين منه هو شخص رصين ومتزن وهادئ الطباع، تخرّج من الجامعة الأميركية في القاهرة ويعمل محللا اقتصاديا، وأيضا هو عضو في حزب سياسي رسمي، من الأحزاب الليبرالية الوسطية التي لها قدرة على التواصل مع السلطة والقيام بدور الوساطة.
يثير هذا الموضوع أسئلة مرعبة عديدة، فإذا كان هذا مصير باحث اقتصادي وعضو هيئة عليا في حزب سياسي رسمي، بالإضافة إلى أن رئيس هذا الحزب عضو في البرلمان، ويستطيع التواصل مع المؤسسات الحاكمة، ويقود لجنة الحوار ولجان الوساطة للإفراج عن المحبوسين، فكيف يكون مصير المجهولين؟ وما هي حقيقة القصة؟ وما الذي حدث له؟ وما هو سبب الوفاة؟ وهل قد تقود التحقيقات إلى أي نتيجة؟ وهل سيجري الكشف عن التفاصيل الحقيقية في يوم من الأيام؟