حروب قوم عند أنظمة فوائد

07 مارس 2022

(المهدي قطبي)

+ الخط -

للحروب مآسٍ عديدة. ومع ذلك، لا تخلو من فوائد ما. لذلك قال العرب: "مصائب قوم عند قوم فوائد". إنّها لا تخلو من توظيفات، حتى إنّ بعضهم يبادر إلى استثمارها استثمارات عديدة. لا تقف مصائب الحرب عند ضحاياها من هذا الفريق أو ذاك. لكن، عادة ما تتجاوز آثارها المخيمين المتصارعين. ربما نستحضر ضمنياً من نُعتوا في جلّ الثقافات والحضارات أثرياء الحرب، غير أنّ هؤلاء لم يعودوا مجرّد تجارٍ يحتكرون المواد، وكل ما يمكن أن يستعمله الناس من أجل التربّح على مآسيهم. تطوّرت الحروب، وتطوّرت معها أشكال استثمارها أيضاً. وعلى الرغم من ذلك، فالشكل الذي تحرص عليه الأنظمة المستبدة هو استثمار الحروب لمزيد من إحكام القبضة.

في تونس، كما في دول أخرى عديدة، لم ينهِ اليوم الأول من الحرب ساعاته، حتى ارتفعت أسعار النفط ومشتقاته، وكذا أسعار الحبوب ومشتقاتها، ونفدت من محلات عديدة. ربما كانت المجتمعات الغربية في منأى نسبياً عن أزمة الحبوب. لكن ثمة شعوب لا تسدّ رمقها إلّا بهذه المادة، فنظامها الغذائي قائم على الحبوب، وتحديداً القمح، مقابل غياب شبه كلي للحوم والخضروات، وجزء مهم من هذه البلدان عربي.

بدأت أزمة ندرة المواد الغذائية وشحّها في تونس قبل بدء الحرب في أوكرانيا، فقد شهدت هذه المواد، منذ إعلان الانقلاب في يوليو/ تموز الماضي، ندرة محيرة، يحمّل الرئيس قيس سعيّد المسؤولية عنها للمضاربين والمحتكرين الذين يتهدّدهم كلّ يوم، ويزجّ بعضهم في السجون بتهم خطيرة، لا تخلو من رائحة المؤامرات التي يلمح إليها، بين الفينة والأخرى. ومع ذلك، لم تشهد الأمور تحسّناً، حتى إذا حلّت الحرب أخيراً، اختفت مواد عديدة في الساعات الأولى للحرب في مشهد سوريالي؛ الخبز والكسكسي، الطبق الوطني الشهير، والسكر والزيت، إلخ.

قادة سيئون يجاملهم الحظ ويمنحهم فرصةً لا تعاد، وها هي الحرب على أوكرانيا تهدي حظاً وافراً لأنظمة عديدة

يحدُث هذا كله في ظل أزمة مالية واقتصادية حادّة، يعوّل الرئيس التونسي على المفاوضات التي انطلقت بين صندوق النقد الدولي والحكومة، من أجل التسريع بإيجاد الحلول، ولو كانت تكلفتها الاجتماعية باهظة، غير أنّ الأمور تتعقد مرة أخرى، فميزانية الدولة بُنيت على فرضية أنّ برميل النفط لن يتجاوز 70 دولاراً، وها هو يبلغ في أقل من أسبوع من اندلاع الحرب عتبة 120 دولاراً.

ومع كلّ هذا الذي يشي، للوهلة الأولى، بتشديد الخناق على النظام السياسي الذي ضيّق مساحة الحريات على الجميع، بمن فيهم القضاة والمحامون ونشطاء المجتمع المدني، غير أنّ ذلك سيبدو هامشياً في ظلّ ما منحته هذه الحرب من سياقاتٍ مهمة، قد توفّر للأنظمة السلطوية مناخاً إيجابياً حتى توطّد أركانها.

كان نابليون بونابرت حين يقدّم له وزراؤه ورجالات بلاطه كبار العسكريين ليختار منهم القائد الذي سيخوض به حرباً من حروبه العديدة التي شنها شرقاً وغرباً، وبعد أن يهتم بخصالهم وكفاءاتهم، يسألهم بكثير من الانتباه: وهل هو محظوظ؟ وفعلاً، تتحدّد مصائر قادة كثيرين من خلال الحظ. "إن سألتم الله فأسألوه حسن البخت". قادة كثيرون، على الرغم من كفاءتهم وقدراتهم قد يلقي بهم سوء الحظ في سياقاتٍ غير محمودة. لكن قد يحدُث خلاف ذلك، فهناك أيضاً قادة سيئون يجاملهم الحظ ويمنحهم فرصةً لا تعاد، وها هي الحرب على أوكرانيا تهدي حظاً وافراً لأنظمة عديدة.

يبدو أنّ قضايا حقوق الإنسان وقيم الديمقراطية ورغبة الشعوب في الحرية ستكون قادماً، ولو ظرفياً، مسائل ثانوية

سينشغل العالم طويلاً بهذه الحرب التي ستطول، وحتى إذا قدّرت للحكمة الربانية أن تتوقف عن معالجة آثارها ستمتدّ سنوات عديدة. وتؤكّد كلّ المؤشرات أنّنا أمام حربٍ غير كلاسيكية، وأنّ تبعاتها ستكون مغايرة لما تنتهي إليه الحروب عادة. لن ينشغل العالم هذه المرّة بإعمار أوكرانيا فحسب، بل بتدبر الخطوط الحمراء التي جرى العبث بها، ناهيك عن خرق قواعد اللعبة التي ظلت ركناً حصيناً من توازنات النظام العالمي ما بعد سقوط جدار برلين.

لن تحوز القضايا التي يطرحها الاستبداد في أكثر من دولة حدثت فيها انقلابات سافرة، أو مخملية ناعمة، اهتمام القوى العظمى، فجلّ التقارير الصادرة قبل أيام تغيب فيها تماماً مثل هذه المواضيع، ولا تحظى حتى بإشاراتٍ هزيلة. يبدو أنّ قضايا حقوق الإنسان وقيم الديمقراطية ورغبة الشعوب في الحرية ستكون قادماً، ولو ظرفياً، مسائل ثانوية. ستكون هواجس القوى العظمى الآن منكبّة على محاصرة الحريق الأوكراني، وتحجيم الدور الروسي، حتى لا يبتلع مزيداً من الأراضي والقيم معاً. لا تبدو الحلول جاهزة، بل يضيق خيال هذه الدول العظمى جداً. وقد رأينا كيف أنّ الولايات المتحدة تفقد خشونة خطابها المعتاد، وتُبدي صراحة عجزها عن مجاراة روسيا، وهي تعبث بما كانت تعدّ ثوابت. هذا العجز عن إعادة فرض تلك الخطوط الحمراء والتراجع المريع الذي يذهب حتى بما بقي من الحياء سيخذل، مرّة أخرى، كلّ من راهن على مساندة القوى "المحبّة للديمقراطية"، فلديها من الهموم ما يكفي.

المعركة الحقيقية من أجل استعادة الديمقراطية داخلية، إذا ما توافرت شروطها: اتساع جبهة المعارضة ووحدتها وتجاوز الانشطار الداخلي الذي يفرّق الصف ويشتّته.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.