حريق الأيقونات: من ليلى خالد إلى رموز الثورة
في صيف العام 2014، وبالتحديد في يوم 17 يوليو/ تموز، قال رئيس الحكومة التركية في ذلك الوقت، رجب طيب أردوغان، معلقًا على خطابٍ لبشار الأسد، بشأن القضية الفلسطينية، إن "إعلان العداء لإسرائيل لا يسقط عن القاتل صفة قاتل". كان يتحدث إلى حشد من الحضور ملقيًا كلمة في مؤتمر حضرته لتدشين مبادرةٍ أطلقت تحت عنوان "علماء العالم الإسلامي إلى تبنّي السلم والاعتدال والحس السليم"، وهو المؤتمر الذي جمع مرجعيات سنية وشيعية في اسطنبول.
كان أردوغان، رئيس الحكومة قبل سبع سنوات، واضحًا وصارمًا في رفض تجميل الاستبداد والطغيان بوضع مساحيق نضالية، على أيادٍ ملوثة بالدم، تتمسح في القضية الفلسطينية، ونصرة المقاومة في غزة. والمعنى الذي فهمته، وفهمه الحضور، حينذاك، أن القاتل يبقى قاتلًا، والطاغية يظل طاغية، والمجرم ضد شعبه لا يتحوّل في لحظة إلى مناضل وداعية تحرر، مهما أحاط نفسه بأكبر كمية من أعلام فلسطين، ومهما امتلأت حنجرته بعبارات الود والتضامن والتعاطف مع شعب فلسطين ومقاومته.
كلمات أردوغان نقرت زجاج الذاكرة لمناسبة الجدل الصاخب حول تصريحات ليلى خالد، الفدائية الفلسطينية، وأيقونة النضال والمقاومة، في سبعينيات القرن الماضي، وهي التصريحات التي تبدو معها بوقًا دعائيًا سخيفًا لمصلحة بشار الأسد وأعوانه ورعاته من قتلة الشعب السوري.
ليلى خالد التي وضعت لها الكاتبة البريطانية، سارة إيرفنج، كتابًا كاملًا تحت عنوان "ليلى خالد أيقونة التحرر الفلسطيني" هي تلك الشابة الفلسطينية في نهاية ستينيات القرن الماضي، التي دوّنت تاريخًا نضاليًا، بمشاركتها في عملية فدائية لخطف طائرة للعدو الصهيوني عام 1969 تحت قيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بهدف لفت أنظار العالم إلى عدالة القضية الفلسطينية بالدرجة الأولى، ومن ثم مقايضة الركاب الرهائن بأسرى فلسطينيين كانوا محتجزين في السجون الإسرائيلية في ذلك الوقت. واستحقّت ليلى خالد، الشابة، لقب أيقونة الكفاح، عن ذلك العمل البطولي في ذلك الوقت، بوصفه نوعًا من المقاومة ضد احتلال إجرامي يستعمر البلاد ويقتل شعبها، منسلخًا من أي قيد أخلاقي أو التزام سياسي وقانوني.
ما يفعله الحكام الطغاة المستبدون، من نوعية بشار الأسد، في شعوبهم العربية هو أيضًا فعل إجرامي يقتل الشعوب بوحشية، بعيدًا عن أي قيد أخلاقي أو سياسي، يرتكبه القتلة والسفاحون بدم بارد ثم يمسحون أياديهم الغارقة بدم الضحايا في علم فلسطين.
غير أن ليلى خالد، السيدة العجوز، اختارت أن تنحاز إلى القتلة هذه المرّة، وتحاول أن تخبئ جرائمهم الموثقة في أحراش المشروع الفلسطيني المقاوم، فلا تجد حرجًا ولا خجلًا، وهي تمد صلات النسب والقرابة بين انتصار غزة وجرائم بشار الأسد، فتقول بلا مواربة "سورية حققت انتصارا ونعتز بها كجزء من محور المقاومة، لولا انتصارها ما حقق الفلسطينيون هذا النصر .. لما تقولوا تحيا سورية (الأسد بالطبع) يعني انتوا عم تقولوا تحيا فلسطين... وأقول لقاسم سليماني أنت إبنُ فلسطين وفلسطين لا يُمكن أن تنسى".
ببساطة شديدة، وضعت ليلى خالد فلسطين ومقاومتها وانتصارها أخيرا في قبضة يدها، ثم أهدتها لقتلة الشعب السوري، بوصفهم آباء النصر والممانعة والمقاومة. وبالطبع، من شاهد الدم السوري يسفك بغزارة على يد القاتل الذي تمتدحه الأيقونة السابقة ليلى خالد لا يمكنه أن يصفق لهذا الانحياز السافر لمعسكر الجريمة، كما أنه ليس منطقيًا أن يظلّ ينظر إلى مانحة المديح الزائف بوصفها الأيقونة السرمدية.
والشاهد أن التاريخ لا يصنع الأيقونات، ولا يضمن لها البقاء. هو، فقط، مراقب محايد، بينما المواقف والأفعال، وحدها، هي ما تجعل من العادي أيقونةً ورمزًا، حتى إذا ما تبدّلت الأحوال وانقلب الشخص على موقفه، وانسلخ من فعله، فإنه يجد نفسه في محرقة ردود الأفعال الغاضبة، من أولئك الذين اعتبروه رمزًا وأيقونة.
في ذلك، كان ياسر عرفات قبل "أوسلو" شيئًا وبعده شيئًا آخر، فقبلها كان المسّ به أو انتقاده نوعًا من الاجتراء على قدسية الحق الفلسطيني المقاوم بالبندقية، إذ كان "أبو عمار" وقتها يجسد رمزية المقاومة والتحرّر في العالم كله، أو بعبارة واحدة "أيقونة الكفاح". أما بعد "أوسلو"، والتخبط في دروب "سلام الشجعان" الزائف والتخلي عن حق المقاومة المسلحة، فقد صار الزعيم الأيقونة ضيفًا دائمًا على مساحات الكاريكاتير السياسي الزاعق، وزوايا الكتاب الساخرين الساخطين في الصحف العربية، والأمر ذاته، وإن بصورة أوضح وأفدح مع شريك نضاله السابق محمود عباس، الذي ورث تركته، ثم تحوّل، في نهاية المطاف، من زعيم سابق إلى ناطور يحرس مزرعة التنسيق الأمني لخدمة الكيان الصهيوني، فانتهى به الحال مسخرة سياسية تاريخية.
والنماذج في هذا السياق كثيرة ومتنوعة، وإن اختلفت درجة أهميتها التاريخية، وأوزانها السياسية، من زعامات مقاومة اعتبرتها الشعوب أيقونات تحرّر وثورة وديمقراطية، لمّا تخلت وتحولت إلى التطبيع مع الاحتلال والتشجيع للاستبداد، انتفت عنها صفة "الأيقونة"، واحتلت أماكنها على رفوف المسخرة، كما جرى مع كثيرين ممن كانوا رموزًا للثورة المصرية، استسلموا للحظة نزق ثوري أطاحتهم خارج المشهد، في تلك المنطقة المعتمة بين الثورة والثورة المضادة.
تلك هي حكمة التاريخ وعدالته التي نتمنى أن يستوعبها الذين أصبحوا في طور الأيقونات، قبل أن يرجمهم الذين وضعوهم في هذه المكانة.