حرّاس معبد الحوار الوطني
من المفترض، نظريًا، أنّ أيّ حوار بين أطراف مختلفة في الرؤى داخل المجتمع الواحد ينبغي أن يكون اختيارًا طوعيًا منها، من دون إملاءاتٍ وتدخّلاتٍ من سلطةٍ تملك وحدها قرار عقد الحوار وفضّه متى شاءت.
بهذا المفهوم، يجب أن يكون الحوار نشاطًا أهليًا مجتمعيًا، وليس عملًا مؤسّسيًا، بمعنى خضوعه لمؤسّسة منبثقة عن السلطة الحاكمة، فما بالك إذا كان الاسم المعتمد لعملية التحاور هذه هو "مؤسّسة الحوار الوطني" كما أُعلن منذ اليوم الأول لعملها، وكما خاطب وزير الخارجية الأسبق، عمرو موسى، القائمين على الحوار مستخدمًا تعبير "هذه المؤسّسة".
بهذا المعنى، تتحوّل "مؤسّسة الحوار" إلى فرع من السلطة، بينما المعلن أنها أداة أو مظلة لإدارة حوار بين المجتمع، ممثلًا في أحزابه ونقاباته وأفراده العاديين، وبين هذه السلطة في عمليةٍ طوعيةٍ تنبع من الإدراك بأنّ ثمّة مأزقًا ينحشر فيه الجميع ويبحثون عن مخرج، فمن شاء فليشارك ومن شاء فليمتنع، غير أنّ الواقع ينطق إن الممتنعين تطالهم يد العقاب، إما إِحياءً لقضايا قديمة حُوكموا عليها سابقًا، أو عبر اختراع قضايا جديدة لهم، والحالات عديدة، أبرزها حالة المهندس يحيى حسين عبد الهادي، الذي انتقد منهج الإقصاء فوجد نفسه مطلوبًا للمحاكمة.
أعلن عضو مجلس النواب السابق، باسل عادل، تأسيس كيان سياسي جديد باسم كتلة الحوار الوطني، وهو ما أشاد به المنسق العام للحوار الوطني ضياء رشوان، قائلا: "نرحّب بالكتلة الجديدة في الحياة السياسية المصرية".
تكتسب تناقضات "الحوار الوطني" أو مفارقاته شكلًا أكثر عبثية حينما يتم الإعلان من داخل هذا الحوار عن تجمّع سياسي جديد باسم "كتلة الحوار الوطني"، قد يتبلور على هيئة حزبٍ سياسيٍّ جديد أو تيار من مجموعة تحالفات ينتهي به المطاف إلى المشاركة في الحوار الوطني!
أنت هنا بصدد متاهة، تشبه ألعاب الملاهي، ملخّصها أنّ مؤسّسة الحوار الوطني تمخضت فولدت كياناً أو كتلة الحوار الوطني لكي تشارك فيما بعد في الحوار الوطني، وهي متاهةٌ حقيقيةٌ تعجز عن فكّ طلاسمها تصريحات عضو مجلس النواب السابق، باسل عادل، المنشورة في صحيفة الشروق عن "تأسيس كيان سياسي جديد باسم كتلة الحوار الوطني، وهو ما أشاد به المنسّق العام للحوار الوطني ضياء رشوان، قائلاً: "نرحب بالكتلة الجديدة في الحياة السياسية المصرية".
في ثنايا الخبر أنّ عادل قال في كلمته في اجتماع لجنة التعليم بالحوار الوطني: "ولد هذا الكيان من رحم الحوار الوطني اسمه كتلة الحوار، نشأ عن تحالف قامات برزت هنا ونرحب بالحميع والانضمام. وأوضح أنه تجمّع سياسي شعبوي نخبوي ليبرالي الهوى، يجمع المشاركون فيه حبّ الوطن وتقديم رؤى وتصوّرات لحلّ مشكلاته، وينطلق من شرعية الدستور المصري. وأكد أنّ كتلة الحوار لا تُقصي أحداً وترحب بالجميع. وطالب باعتماد كتلة الحوار ككيان سياسي واجتماعي في الحوار الوطني".
انتهى الاقتباس من الصحيفة، ولم تنته التساؤلات: ما هي الصيغة القانونية التي سيعمل بها هذا "التجمّع السياسي الشعبوي النخبوي"؟ وهل سيتحوّل إلى حزب سياسي مثلًا، مولود في فراش مؤسّسة الحوار التي قامت بأمر السلطة؟ ثم كيف يكون الشيء شعبويًا ونخبويًا في الوقت ذاته؟ ثم ماذا عن ما تسمّى "الحركة المدنية الديمقراطية" التي من المفترض أنها تجمّع سياسي أهلي، نشأ على الاعتبارات ذاتها، وهل سيكون بديلًا عنها، وإذا لم يكن بديلًا، فهل سيكون منافسًا لها؟
المنسق العام للحوار الوطني، ضياء رشوان، علّق في الخبر ذاته، بالقول "نرحب بالكتلة الجديدة في الحياة السياسية المصرية". ولمزيد من التحالفات، تحدث عن إمكانية وجود تعديل قانوني يسمح بدمج الأحزاب وتكوين التحالفات والكتل السياسية.
الشاهد أنّ "الحركة المدنية الديمقراطية" المشاركة في الحوار تحالف بين مجموعة من الأحزاب والكتل السياسية، وربما كان صاحب مشروع الكتلة الجديدة أحد أعضائها، ومن ثم فإنّ الذهاب إلى كتلة جديدة لا يحمل أيّ ملمح من ملامح الدمج، بل هو تجسيد لمنطق الانشطار والانفصال عنها، وهنا تناقض فادح آخر.
أغلب الظن أنّ كلّ ما يجري هو نوع من تعبئة فراغ سياسي رهيب، واصطناع حالة حيوية سياسية مزيفة، لم ينجح هذا الحوار في بلوغها، إذ يتحوّل إلى لافتةٍ ضخمةٍ لمؤسّسة، بلا جمهور، تنتحل لذاتها قدسيةً متخيّلةً ويقف على بابها حرّاس أشداء، يخترعون لها كلّ يوم دورًا ويغرسون بذرةً لا تنبت، في أرض بات سكانها لا يعبأون بكلّ هذا الطبل الأجوف.