حزيران سليم بركات

25 يونيو 2020
+ الخط -
جادّا، طالب صديقٌ مغربيٌّ بلجنةٍ دوليةٍ للتحقيق في عدم صعود رواية سليم بركات "ماذا عن السيدة اليهودية راحيل؟؟" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2019) من القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) إلى قائمتها القصيرة. وذلك في غضون غضبةٍ، واسعةٍ نسبيا، بين مثقفين وقرّاء، سيما سوريين أكراد، مما اعتبروه غُبنا لحق بالروائي (والشاعر من قبل ومن بعد) الشهير، عندما "استُبعِدت" السيدة راحيل من "حقّها" هذا. ولا يتزيّد كاتب هذه الكلمات في تأكيده هنا إن قليلين جدا من هؤلاء قرأوا الرواية الرابعة والعشرين لصاحبها (بينها ثلاثيةٌ وأخرى من جزئين). ومع إمتاعٍ طيبٍ متحقّقٍ في قراءتها، على طولها (560 صفحة)، إلا أن صاحب هذه المقالة لا يتزيّد (مرة ثانية وأخيرة) في القول إنها روايةٌ ليست عظيمة المكانة، ولا متينة أو فاتنة، حتى يأخذك الحماسُ لها إلى وجوب تكريمها بجائزة. وبعيدا عن التعالُم الذي بدت عليه شهادةٌ نشرَها عضو لجنة تحكيم "بوكر"، أمين الزاوي، فإنه وجيهٌ كلامُه فيها إن "ماذا عن السيدة اليهودية راحيل؟؟" ليست في مستوى رواياتٍ لسليم بركات سابقةٍ، متميزةٍ وقوية، و"فيها ترهّل، مليئة بالكلام الهامشي الذي لا يفيد السرد في أي شيء"، غير أنه لا وجاهة في نعت الزاوي لها بأنها "ضعيفة"، ولا كانت في محلها الفوقية التي زاولها، لمّا تهكّم على بعض من تحمّسوا للرواية وكاتبها.
ليست حكاية "بوكر" مناسبة المجيء هنا على جديد سليم بركات (له في كل عام أكثر من إصدار غالبا)، وإنما أنّه في هذا الجديد يروحُ إلى حرب حزيران 1967 التي تمرّ ذكراها في هذه الأيام، وتُستدعى ظلالُها في غضون الهزائم العربية الراهنة. ولا مدعاة لأي حذر منهجي (أو أكاديمي؟) في أن تُدرج "ماذا عن السيدة اليهودية راحيل؟؟" في المدوّنة الروائية العربية الحزيرانية، العريضة، أي التي اقتربت من الحدث المدوّي المعلوم، في خمسة عقود. ولمّا كان مشهورا أن سليم بركات صاحبُ منجزٍ أدبيٍ لا يشبه غير نفسه، بتعبيرٍ حاذقٍ لواسيني الأعرج، فإن حزيرانَه اختلف، في روايته هذه، عن الذي حضر في نصوص غيره. لقد بدت الحرب، في ذلك الشهر قبل ثلاثة وخمسين عاما، حدثا يمرُقُ فقط في المشهد العام الذي ينبني في الرواية من محكيات فتيةٍ مراهقين كردٍ ويهود، ومحاوراتهم، في مدينة القامشلي السورية. ولمّا كان، في حقيقي الوقائع المعلومة، حدثا انعطافيا، فإنه في الرواية هذه التي تحتشد فيها الحوارات، أو الثرثرات الحرّة (كما أصابت كلمةٌ على الغلاف الخارجي للكتاب) انعطافيٌّ أيضا، لجهة مزيدٍ من هجرة اليهود السوريين بلدهم. والرواية التي يتحرّك شخوصُها في عام واحد في المدينة السورية، متنوّعة الأقليات والأعراق والأديان، منذ عشية الحرب إلى لحظة بكاء الفتى، كيهات، (الشخصية الأكثر حضورا في الرواية)، وهو في حال كما البجعة في تغريدةٍ أخيرة، يدندن بكلمة سوريا، مقطّعةً، بعد أن ينظر في ورقة مكتوب عليها بالعبرية، أخرجها من جيبه، وكانت أعطتها إياه، لينا، اليهودية التي أحبّها، ابنة بائعة اللحم في الحي اليهودي، السيدة راحيل، وقد رحلتا عن البلد.
سأل كيهات مرّة عن سبب غياب الست راحيل في أغنية فريد الأطرش (كلمات بيرم التونسي)، والتي يقول فيها ".. قد تآخينا هلالا وصليبا". سأل في منزلهم، بين أبيه وأمه وأخيه، جارتَهم العربية كاتيا. لماذا لم تجد الأغنية مكانا لها (راحيل) بين الهلال والصليب؟ ويترك سليم بركات إيحاءً ظاهرا في هذا السؤال الذي اختاره اسما لروايته، وبالغ العفوية من فتىً كرديٍّ في القامشلي السورية، في أجواء حربٍ بين العرب وإسرائيل، الحرب التي يزداد بعد الهزيمة فيها حضور رجال المخابرات في المدينة، الحرب التي أُرسِل جنودٌ إليها ليُقتلوا "محمولين على صواعق الخطط الخطأ، المُفتَضحة، في دولةٍ مفتَضحة، مُعلَنةِ الأسرار الحربية، مخترقًةٍ بجسّاسي شؤونها، من عظام حزبها الإيمان ببعث الأمة الواحدة، حتى قبّعات قادتها العسكريين".
لماذا يختفي اليهود من قامشلو؟ واحدٌ من أسئلةٍ عديدةٍ، منظورةٍ وأخرى مضمرة، ضجّت بها روايةٌ جديدةٌ في مشاغلها، وانتباهاتها، غزيرة الإحالات والمضامين، جريئةٌ في هجائيتها الظاهرة والمستترة، غير أنها ليست فقط عن فقد سورية يهودَها، وإنما أيضا، في مقولتها الأبعد، عن فقدان سورية سورييها، منذ حزيرانٍ بعيد، وإلى ما بعد حزيرانٍ ماثل.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.