حضارات ومصالح
يُقسّم صموئيل هنتنغتون العالم إلى أربع حضارات رئيسية، هي وفق الترتيب الذي يقترحه: حضارة غربية مسيحية، وثانية إسلامية، وثالثة كونفوشيوسية، ورابعة هندوسية، ويضيف، بعد ذلك، قائمة بحضارات أقلّ أهمّية هي في نظره: لاتينية أميركية، وسوداء أفريقية، وأرثوذكسية (روسية في الأساس)، وبوذية ويابانية، إضافة إلى حضارات كوريا وجنوب شرق آسيا.
جاء ذلك في أطروحته عن صراع الحضارات، التي شكّلت مع أطروحة "نهاية التاريخ" لمواطنه فرانسيس فوكاياما محورَ الخطاب الأيديولوجي الغربي بعد نهاية الحرب الباردة، ونطلق على هذا الخطاب وصف "الأيديولوجي" قاصدين، رغم أنّ دعاة هذا الخطاب أقاموه على دعامة نفي الأيديولوجيا، فيما هو، في الجوهر، خطاب أيديولوجي بامتياز لجهة تبشيره بانتصار الحضارة الليبرالية، ليس في مواجهة ما وصفوه بالشمولية السياسية، التي سقطت في شرقي أوروبا، وإنّما كذلك، في مواجهة الحضارات الأخرى خارج النطاق الجغرافي والثقافي الغربي.
تركّز الرفض الفكري والثقافي في الغرب وخارجه على نظرية فوكاياما عن "نهاية التاريخ"، ربّما لأنّ مسعى صاحبها لإلباسها رداءً فلسفياً وفكرياً جعل منها موضوع نقاش في الأوساط الأكاديمية والسياسية، التي رأت في تبشيرها بنهاية التاريخ صياغة مشوّهة وفقيرة الدم لأطروحات سابقة في التراث الفلسفي الكلاسيكي، عند هيغل خصوصاً، لكن مع ملاحظة ضآلة حجم فوكاياما وقامته إزاء المنظومة الثريّة والمعقّدة لهيغل. أما أطروحة هنتنغتون فقد بدا واضحاً أنّها أقرب إلى الأطروحة السياسية المباشرة منها إلى التنظير الفلسفي العميق، خاصّة أنّها في الأصل ليست أكثر من مقالة للكاتب نشرت في دورية "شؤون خارجية" المتخصّصة في القضايا الدولية، ساعياً لإبعاد النظر عن التناقض العميق في المصالح بين الشمال والجنوب، وبين الكتل الاقتصادية – السياسية الكبرى عبر تقديم صراعات أخرى تنتسب إلى ما يمكن وصفها بالنيّة الفوقية، أي إلى حقل الأفكار والثقافات والديانات واللغات... الخ.
قال الشاعر الإغريقي قسطنطين كافافي، الذي عاش في الإسكندرية في زمنٍ غابر، في قصيدة شهيرة له: "لأنّ الليل قد أقبل ولم يحضر البرابرة/ ووصل بعضهم من الحدود/ وقالوا إنّه ما عاد للبرابرة وجود/ ماذا سنفعل الآن/ بلا برابرة؟ لقد كان هؤلاء الناس حلّاً من الحلول".
وغاية العودة إلى هاته القصيدة التدليل على أنّ "البرابرة"، برأي الغرب، هم الآخرون، الأقلّ مرتبة وتحضراً، وهم بهذا المعنى أيضاً العدوّ الفعلي الماثل أو العدوّ الكامن المحتمل، الذي يجب إقصاؤه، من دون التخلي عن وجوده بوصفه غريماً يهيئ الأسباب والذرائع الضرورية كلما كان ذلك ضرورياً. وهذا الشرح يفضي إلى فكرة الذريعة الخارجية، التي تحت عباءتها يمكن تصريف المشاكل وترحيلها.
تنويعاً على هذه الفكرة، أصدر تزفيتان تودوروف كتاباً سمّاه: "الخوف من البرابرة - ما وراء صدام الحضارات" (ترجمة جان جبور، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، أبو ظبي، 2009)، يقول فيه: إنّ الخوف من البرابرة جعلنا نحن (الغربيين) برابرة لأنّنا بدافع الخوف نرتكب أعمالاً لا تقلّ فظاعة". وهو يرى أنّ مفهوم صدام الحضارات قابل للدحض والنقد من الناحية العملية، لأنّ الحضارات لا تتطابق مع هذه الكيانات التي يفترضها بعضهم منغلقة.
مفهوم "صراع الحضارات"، الذي أطلقه هنتنغتون في أطروحته عن صراع الحضارات، التي حدّد فيها بعض الحضارات بمكانة أولى، بوصفها خطراً محتملاً قادماً على الحضارة الغربية، هو المثال النموذجي الذي ينطبق عليه قول تودوروف، لأنّ الغرب لا يمكن أن يعيش أو يتنفس من دون عدوٍّ خارجي، من دون خطر، حتّى لو كان مفتعلاً، فمنذ اليونان القديمة، كرّست الحضارة الغربية مبدأ الثنائية الحضارية، حضارة أولى هي الأنموذج والمثال في النهضة والرقي، وأخرى لـ"البرابرة" الذين "يبربرون" بلغات أخرى.
لا تحدُث الصراعات، برأي تودوروف، بين الحضارات وإنّما بين الدول، ولذا عبثاً يجري إقناعنا بأنّ هذه الصراعات ذات طبيعة دينية. إنّها صراعات سياسية، مع دول ومع جماعات، لا مع حضارات بكاملها، كالحضارة الإسلامية، ولنختم بما قاله أرنولد توينبي من أنّ الغرب دفع معاصريه وظهورهم إلى الحائط، ثم حبسهم في شباك اقتصاده المهيمن ونفوذه السياسي، لكنّه أخفق في تجريدهم من سلاح ثقافاتهم المتميزة، التي أبقوا عليها ولو بالصراخ والعويل، لذا سيبقى التاريخ مفتوحاً وتعددياً رغم الوتائر السريعة للتوحيد القسري للعالم كما يدعوه زيجلنر في حواره الشهير مع ريجيس دوبريه، فللحضارت الكبرى الأخرى، غير الغربية، كلمتها، التي لم تقلها بعد بالضرورة، لأنّ التاريخ لم ولن ينتهي.