حقوق الإنسان من فلسفة التعاطف إلى المرجعية القانونية العالمية
ما يميز الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يحتفل العالم في شهر ديسمبر/ كانون الأول الحالي بذكرى مرور 74 عاماً على صدوره، عن أيّ وثيقة حقوقية أخرى صدرت في عصر الثورات السياسية الكبرى في الولايات المتحدة أو فرنسا في القرن الثامن عشر، أو في إنكلترا في نهاية القرن السابع عشر، أنها انتقلت بالحقوق من الدعوة إليها في الإطار الوطني في ظل حقوق المواطنة، للدفاع عن الإنسان العالمي الذي يتمتع بحقوقٍ تعبر عن الاعتراف "بالكرامة متأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية"، بصرف النظر عن رابطة انتماء المواطنة.
وتعود جذور التفكير في هذه الحقوق باعتبارها حقوقاً لصيقة بالفرد في مواجهة الدولة والمجتمع لسلسلة من التغيرات الثقافية والاجتماعية التي امتدّت منذ منتصف القرن الثامن عشر، ومهدت للظروف السياسية التي أنتجت الوثائق التاريخية الأولى لحقوق الإنسان في العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر. وفي محاولتها المهمة لتتبع الجذور التاريخية لفكرة حقوق الإنسان، ذكرت المؤرّخة لين هنت في كتابها الصادر عام 2007 "نشأة حقوق الإنسان: لمحة تاريخية" أنّ ولادة مشروع حقوق الإنسان ارتبطت بفلسفة التعاطف، وشعور أفراد المجتمع بعضهم ببعض كظاهرة حديثة انتشرت في المجتمعات الأوروبية في منتصف القرن الثامن عشر، بفعل الطفرة النوعية في الآداب والفنون وانتشارها بين العوام. أتاح التوسّع في صدور الروايات الأدبية وانتشار قراءتها في تلك الفترة مشاركة التجربة النفسية في المعاناة التي يمرّ بها شخوص هذه الروايات، وولّدت شعوراً مختلفاً لدى الأفراد تجاه ذواتهم، والجسد والآخرين، والذي عزّز بدوره من الذاتية الفردية والاستقلالية الأخلاقية، والتفكير في الآخرين ومعاناتهم بالطريقة نفسها التي يفكرون بها في ذواتهم.
خصّص الفيلسوف الإنكليزي، آدم سميث، واحداً من مؤلفاته عام 1759 للشعور الأخلاقي والتعاطف بين الفرد والآخرين
وقد كان من بين أشهر أنواع الأعمال الأدبية في ذلك العصر ما عرف بأدب الرسائل الذي اشتهر به على سبيل المثال الإنكليزي صمويل ريتشاردسون في أعماله، مثل روايتي "باميلا" و"كلاريسا"، أو رواية "جولي" (إلواز الجديدة) للفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، وقد ذاع صيت هذه الأعمال في فرنسا وبلدان أوروبية أخرى. تمركزت أحداث هذه الروايات حول شخصيات عادية جذبت سيرها وتجاربها تعاطف القرّاء عبر مشاركتهم التجربة النفسية التي يمر بها أبطال الرواية خلال مراحلهم العمرية، والمعاناة التي تلحق بهم في الأحداث الدرامية لهذه الروايات. وقد عبر دني ديدرو، وهو أحد رموز حركة التنوير الفرنسية عن التأثير العميق لهذا النوع من الروايات الأدبية، في مقاله المنشور عام 1761، عن أعمال صمويل ريتشاردسون. ورأى ديدرو أنّ قرّاء هذه الروايات تجمعهم علاقة توحد مع مصير شخصياتها وأحداثها، ويمرّون بتجربة مكثفة للتعلم العاطفي، عبر معايشة خبرات حياتية يصبح فيها الفرد قريباً من آلام الآخرين ومعاناتهم، ويبدأ في عكس هذه التجارب على ذاته وحياته الشخصية. وقد خصّص الفيلسوف الإنكليزي، آدم سميث، واحداً من مؤلفاته عام 1759 للشعور الأخلاقي والتعاطف بين الفرد والآخرين، والذي يصبح ممكناً فقط عندما يضع الفرد نفسه في تجارب المعاناة والألم الذي يشعر به الآخرون. ومن أمثلة بارزة على أثر فكرة التعاطف في تطور خطاب الحقوق في تلك المرحلة التاريخية، كان تفاعل الكاتب والفيلسوف الفرنسي فولتير مع القضية الشهيرة للتاجر البروتستانتي، جون كالا، الذي كان قد دين ظلماً بقتل ابنه، ثم جرى تعذيبه بدنياً وإعدامه في محاكمة جائرة في مدينة تولوز الفرنسية عام 1762 على خلفية التعصّب الديني الذي ساد المجتمع الفرنسي في ذلك الوقت. وقد دفعت هذه القضية فولتير إلى كتابة واحد من أشهر كتبه، وأكثرها تأثيراً في مسار الفكر الأوروبي "رسالة في التسامح الديني" عام 1763.
المساواة التي بشّرت بها وثائق حقوق الإنسان في القرن الثامن عشر، ظلت منقوصة بمحدّدات قومية، وعرقية، وطبقية، وجنسية
التغير الآخر الذي ميّز تطور خطاب الحقوق في النصف الثاني من القرن الثامن عشر طبقاً للين هنت هو التحوّل النوعي في النظرة إلى الجسد، عبر إعلاء حرمته، وارتباطه بالفرد المستقل بذاته. كان إيقاع الألم على الجسد، من خلال إباحة استخدام التعذيب والعقوبات البدنية القاسية، يُنظر إليه، فترة طويلة، أنّه تعبيرٌ عن تماهي الفرد مع الغايات الأخلاقية للمجتمع أو الأديان. لكنّ تغير النظرة الأخلاقية والفلسفية للجسد مهّد لتغير توجهات الرأي العام في أوروبا تجاه العقوبات الجسدية واستخدام التعذيب، وهو الأمر الذي انعكس لاحقاً في مركزية فكرة تحرير الجسد من الألم في تصوّرات حقوق الإنسان.
لكنّ المساواة التي بشّرت بها وثائق حقوق الإنسان في القرن الثامن عشر، وفي مقدمتهما الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن، ظلت منقوصة بمحدّدات قومية، وعرقية، وطبقية، وجنسية. وقد وضع تصاعد التطرف القومي في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، والاستغلال الاستعماري حتى منتصف القرن العشرين، خطوطاً فاصلة لامتداد خطاب الحقوق، وتحوّله إلى خطاب عالمي، حتى صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948. وارتبط صعود خطابات حقوق الإنسان أو انحسارها دولياً في سياق ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية بواقع العلاقات الدولية، وخريطة توزيع القوى السياسية دولياً. في هذا السياق، يرصد المؤرخ القانوني الأميركي صامويل موين في كتابه الصادر عام 2010 "اليوتوبيا الأخيرة" هامشية التأثير الدولي للإعلان العالمي لحقوق الإنسان عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، حتى انتشار فكرة حقوق الإنسان العالمية، وحركات حقوق الإنسان الدولية بداية من عقد السبعينيات في ظلّ السقوط الأخلاقي لليوتوبيا التي بشّر بها الاتحاد السوفييتي. ومثلت حقوق الإنسان في تلك الحقبة أداة مركزية في مواجهة القمع في الاتحاد السوفييتي ومناطق نفوذه، بالتزامن مع اتجاه اليسار إلى خطاب حقوق الإنسان لمواجهة الاستبداد، خصوصاً في دول أميركا اللاتينية. وقد تمتعت المرجعية الأخلاقية لحقوق الإنسان بدعم سياسي دولي، حيث أصبحت مدرجةً على جدول أعمال السياسة الخارجية الأميركية لأول مرة في نهاية السبعينيات في ظل إدارة جيمي كارتر، وحصلت منظمة العفو الدولية، وكانت قد تأسست في بداية الستينيات للتضامن العابر للحدود مع سجناء الرأي، على جائرة نوبل للسلام عام 1977. كما شهدت المنظومات الدولية والإقليمية لحماية حقوق الإنسان توسّعاً معيارياً ومؤسّسياً بداية من عقد الثمانينات مروراً بفترة ما بعد الحرب الباردة في عقد التسعينيات.
تصاعد النفوذ السياسي الدولي للقوى المعادية والمشككة في القيم العالمية لحقوق الإنسان بالتزامن مع تصاعد الاتجاهات الشعبوية والقومية المتطرّفة
ثم واجهت هذه الطفرة الدولية لمشروع حقوق الإنسان تهديدات وجودية متزايدة خلال العقدين الأخيرين، بدأت بالتداعيات الأمنية الواسعة التي أعقبت هجمات "11 سبتمبر" في الولايات المتحدة عام 2001، وما تمخّض عنها من تقييد الحقوق في ظل ديمومة التدابير الاستثنائية التي تفرضها المواجهة الدائمة مع الإرهاب دولياً ومحلياً، ثم تصاعد النفوذ السياسي الدولي للقوى المعادية والمشككة في القيم العالمية لحقوق الإنسان بالتزامن مع تصاعد الاتجاهات الشعبوية والقومية المتطرّفة، والعداء للأجانب والمهاجرين في مجتمعات غربية عديدة؛ فضلاً عن تغير بنية العلاقات الدولية في ظل تعدّد مراكز القوى دولياً وإقليمياً، الأمر الذي يضعف منهجياً من قدرة المنظومة الدولية لحقوق الإنسان على القيام بمهامها، خصوصا تجاه الكوارث الإنسانية الناتجة عن الصراعات المسلحة الدولية والمحلية. لقد مهد صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لتطور مرجعية أخلاقية عالمية تخاطب جميع البشر، بصرف النظر عن اختلافاتهم، لكنّ الأسس الفلسفية والأخلاقية التي قام عليها هذا المشروع، سواء في وثائق الحقوق في القرن الثامن عشر أو في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ظلت في صراع سياسي واجتماعي مستمر مع أطر أخلاقية وأيديولوجية منافسة، وسياقات سياسية واجتماعية متقلبة تنال، في أوقات كثيرة، من صدى فكرة حقوق الإنسان وجاذبيتها، وإمكانية تطبيقها واحترامها عالمياً.