حكومتان في ليبيا .. ماذا بعد؟
تلقّى الليبيون، الأسبوع الماضي، من غير هيكلٍ سياسيٍّ في السلطة وحوافّها في بلدهم، حُزما من التهاني، بمناسبة ذكرى ثورة 17 فبراير التي خلعت، بعونٍ من "الناتو"، معمّر القذافي، بعد جولات قتالٍ مريرةٍ استغرقت شهورا. وقال المجلس الرئاسي، في بيان تهنئته، إن الثورة قامت من أجل "عزّة الشعب الليبي وكرامته، وحرّيته وتحقيق العدالة الاجتماعية، وإرساء دولةٍ مدنيةٍ أساسها القانون والمساواة". وأمَل المجلس "الوصول إلى دولةٍ مدنيةٍ ديمقراطيةٍ، ذات دستورٍ وسيادةٍ وطنية، يسيّرها القانون بمؤسّساته، وينعم فيها المواطن الليبي بالعيش الكريم". ومؤكّدٌ أن هذه الآمال وتلك التطلعات لم يستشعرها الليبيون بعد، فقد ظلّت دولتهم، غير المدنية وغير الديمقراطية بعد، تعبُر في الأحد عشر عاما التي مضت، من أزمةٍ سياسيةٍ لتدخل في أخرى. وربما ينظرون إلى الأزمة الماثلة راهنا، وقد نشبت في 10 فبراير/ شباط الجاري، مستجدّا مقدورا عليه، إذ لا يلوحُ أن اقتتالا قد يشتعل بين الحكومتين اللتين في المشهد حاليا، وإنْ قوةٌ عسكريةٌ ليست هيّنةً تحرّكت من مصراتة باتجاه طرابلس، لدعم عبد الحميد الدبيبة الذي يتمسّك برئاسته الحكومة إلى يونيو/ حزيران المقبل، وإنْ أرتالٌ من مركباتٍ عسكريةٍ تحرّكت من الزاوية والزنتان وغيرهما باتجاه طرابلس أيضا لدعم فتحي باشاغا الذي عيّنه مجلس النواب في طبرق رئيسا لحكومة جديدة، في سلوكٍ قوبل برفضٍ واسع، سيما وأنه يصدُر عن مجلس المشكلات والتوترات، على ما يسمّي الليبيون مجلس النواب برئاسة عقيلة صالح.
لن تستطيع، أيا كانت مستويات متابعتك الأزمات الليبية المتعاقبة، أن تحسم في الأسباب التي دعت عقيلة صالح، بدفعٍ من مصرٍ (وغيرها) على الأرجح، إلى الخروج على حكومة الوحدة الوطنية التي أنتجتها تفاهمات اجتماعات تونس وجنيف برعاية الأمم المتحدة، بعد شهورٍ من مراوحات ما بعد وقف الحرب العدوانية التي شنّها على طرابلس خليفة حفتر، وقد أراد هذا، بقوة النيران والقذائف والمسيّرات الصينية (وغيرها) السيطرة على العاصمة، فيصير رئيس الأمر الواقع، وذلك قبل أن يرتدّ ويُهزَم بفعل طائرات البيرقدار التركية، والدعم العسكري الثقيل السويّة الذي وفرته أنقرة لحكومة فائز السراج، في حينه. وهذا هو حفتر يساند حاليا تولي باشاغا رئاسة الحكومة، ويدعم ما أقدم عليه مجلس النواب في طبرق، ما قد يعني أن بواعثَ محض فردية، بغرض السلطة وليس غيرها، تفسّر الانعطافة التي صار عليها باشاغا، وزير الداخلية الأسبق وغريم حفتر سابقا. وهكذا نجدنا في متاهةٍ ليس في الوسع تفكيك كل خيوطها، في محاولة استشراف مآلات التنازع الجديد، بين تحالف باشاغا حفتر عقيلة صالح وحكومة عبد الحميد الدبيبة التي تلقى إسنادا من مجلس الدولة، ومن فعالياتٍ ليبيةٍ ترى في الذي فعله مجلس النواب إجراءً غير سليم، ويعرقل خرائط مطروحةً للتداول من أجل تجاوز محطّة تعطّل الانتخابات الرئاسية التي كان مقررا انتظامها في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، ويلحّ الدبيبة على إمكانية التوافق على تنظيمها في يونيو/ حزيران المقبل، وقد كان أحد المرشحين فيها، كما الثلاثي، باشاغا حفتر عقيلة صالح، وهم على غير الحماس لهذا الموعد الذي يضعه رئيس حكومة الوحدة الوطنية ضمن ما يسمّيها خريطة طريقٍ لا يبدو أن مستشارة بعثة الأمم المتحدة، ستيفاني وليامز، مكترثةً بها.
يكاد يكون مستحيلا استقرار ليبيا على مسارٍ سياسيٍّ واضح يتجه إلى حل كل الإشكالات القانونية والسياسية والدستورية، والتي لم يستطع الاتفاق السياسي الموقع في الصخيرات (2015) حسمها، ولا أمكن لكل المؤتمرات الدولية والإقليمية التي تتالت في روما وبرلين وغيرهما أن تأخذ ليبيا إلى أرضياتٍ قارّة، تنبني عليها معادلاتٌ لبناء الدولة الليبية المشتهاة، ولا تيسّر للقاءات الليبية في بوزنيقة وجنيف وطنجة وتونس (وغيرها) أن تنهي متاهات البحث عن جمهورية ما بعد جماهيرية القذافي، يكاد هذا كله يكون مستحيلا بوجود مجلس النواب برئاسة عقيلة صالح، وبوجود التأثيرات المتقلبة لغير دولةٍ عربيةٍ وأجنبيةٍ، تمارس رهاناتٍ وتجارب وقفزاتٍ ومحاولاتٍ وحسابات، لا ينعدم فيها، في غير حين، الارتجال المفاجئ، ولا يغيب عنها نقل البواريد من أكتافٍ إلى أخرى. ..