حلم الدولة عائقاً أمام التحرر الفلسطيني
تمرّ القضية الفلسطينية بأزمة عميقة وكبيرة جداً، إذ يتحمّل الجسم السياسي الفلسطيني الجزء الأكبر من المسؤولية عنها، وهو ما توضحه تحليلات عديدة تتناول هذه الأزمة وإفرازاتها البينة. لكن على مستوى آخر؛ لا تنحصر أسباب الأزمة الفلسطينية في ترهّل الجسم السياسي الفلسطيني وانحرافاته فقط، بل نجد بعض إرهاصاتها في ممارسات شعب فلسطين وتوجهاته داخل الوطن وخارجه، وبالتحديد في تحول حلم الدولة إلى هدفٍ بذاته ولذاته. بمعنى آخر، بات بناء الدولة، أي دولة كانت، أولوية لدى قطاعاتٍ واسعةٍ من شعب فلسطين، تسبق هدف التحرير والعودة وتقرير المصير، وهو ما يساهم في تخبط نضالات شعب فلسطين ويشوش رؤيته وأهدافه وتوجهاته. كما يؤدّي إلى إعاقة ولادة منظومة تحرّرية جديدة بعد اضمحلال المنظومة التاريخية كاملة، ممثلةً بتجربة الفصائل المنضوية تحت لواء منظمة التحرير، ونظيرتها من خارج المنظمة.
وفقاً لاستطلاع الرأي العام الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، الذي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، بين 22 - 25 يونيو/ حزيران 2022، يعارض 69% فكرة حل الدولتين، ويؤيد 49% منهم حل السلطة، كذلك ينظر 65% بإيجابية إلى خطوات بناء الثقة بين السلطة والاحتلال، واعتبر 50% العمل المسلح الطريقة الأمثل لإنهاء الاحتلال وإقامة دولة مستقلة، في مقابل 22% اعتبروا المفاوضات هي السبيل الأمثل لذلك.
تعبر نتائج الاستطلاع المذكورة عن بعض التخبّط في الرؤى، إذ لم يؤيد جميع معارضي حلّ الدولتين خيار حلّ السلطة، الأمر الذي يكشف عن تعلق قسم كبير منهم بوهم الدولة في ظل الاحتلال، وبالتحديد في ظل الاحتلال الصهيوني العنصري والإحلالي. كذلك ينظر قسم كبير من معارضي حلّ الدولتين (قرابة 34% منهم) إلى خطوات بناء الثقة مع الاحتلال بإيجابية، وهو ما يعبر عن تعلقٍ بالوهم السلطوي ذاته. أما بخصوص الطريق الأمثل إلى إنهاء الاحتلال وإقامة دولة مستقلة، فنلحظ شبه تطابق بين نسبة مؤيدي حلّ الدولتين، ونسبة مَن يعتبر التفاوض الطريق الأنجح إلى إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة المستقلة. كما نجد عند العودة إلى استطلاعات المركز نفسه في العام 2021، وبالتحديد استطلاعي 79 و80، مطالبة نحو 74% بإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية.
ليس هناك تحرّر ولا حرية ولا دولة ولا عودة ولا أي مظهر من مظاهر السيادة وتقرير المصير، نتيجة استمرار المنظومة الصهيونية العنصرية والإحلالية
تشير غالبية نسب الاستطلاع المذكورة إلى ميل شعبي واضح نحو الأمور المتعلقة بشؤون الدولة، كالانتخابات الرئاسية وخطوات بناء الثقة والحفاظ على السلطة، رغم دورها الوظيفي الأمني (أكثر من 50% بقليل). في المقابل، يعتقد الكاتب أن نسبة معارضي حلّ الدولتين المرتفعة في الاستطلاعات أخيرا خادعة قليلاً، كونها تعبّر عن خيبة أمل كبيرة نتيجة توالي جرائم الاحتلال الصهيوني واعتداءاته التي تقوّض حلّ الدولتين، وتجاهل المجتمع الدولي مجمل الحقوق الفلسطينية، وعلى رأسها حقه في دولته الوطنية، وبحكم ممارسات السلطتين الأمنية والاستبدادية كذلك. وهو ما تؤكده حالة الجمود والانتظار السائدة سياسياً وشعبياً، إذ تندر المبادرات السياسية الخلاقة، التي تطرح أفكارا نضالية جديدة أو متجدّدة، كما تسود حالة من السلبية في التعاطي مع المبادرات المطروحة، على اعتبارها غير واقعية ومستحيلة التحقق، وهو ما يعيدنا إلى فكرة حلّ الدولتين بطرق ملتوية، إذ ما زال جزء كبير من شعب فلسطين ومن نخبه يتحرّكون وفق معايير حلّ الدولتين، حتى لو جاهروا بمعارضته ورفضه واستحالة تحقيقه، ما يمثل جوهر المشكلة الفلسطينية على المستويين، الرسمي والشعبي.
أيضاً؛ تعبر غالبية الحركات الاحتجاجية داخل مناطق السلطة عن تمسّكها بالسلطة ومؤسّساتها، على اعتبارها مقدمات بناء الدولة، حيث تنطلق تلك الاحتجاجات من منظور إصلاحي مؤسّساتي، وكأننا في دولة حقيقة أو شبه دولة، وهو ما يتجاهل الواقع الحقيقي ويقفز عنه، حيث يغيب عن تلك الحركات مَن شَكل السلطة؟ ولماذا؟ وكيف؟ الأمر الذي يعيدنا إلى دور الاحتلال ومصالحه وأهدافه، التي تتعارض مع أيٍّ من حقوق شعب فلسطين الأصلي. الأمر الذي يجب أن يعيد الأمور إلى نصابها، عبر أولوية التحرير وتفكيك المنظومة الصهيونية العنصرية والإجرامية على مهمة بناء الدولة. لكن وللأسف ما زال جزء كبير من تلك الحركات والتحرّكات ينطلق من رؤية معكوسة، أي من أولوية بناء الدولة على التحرير، وأحياناً وفق رؤيةٍ تتناسى محورية تفكيك كامل المنظومة الصهيونية العنصرية التي مارست وتمارس؛ وسوف تبقى تمارس؛ التطهير العرقي ضد شعب وأرض فلسطين.
نسبة معارضي حلّ الدولتين المرتفعة في الاستطلاعات أخيراً خادعة قليلاً، كونها تعبّر عن خيبة أمل كبيرة نتيجة توالي جرائم الاحتلال الصهيوني
من حق شعب فلسطين التطلع إلى بناء دولتهم الوطنية الخاصة بهم، كسائر شعوب الأرض، ومن حقهم العمل على تهيئة الظروف المواتية من أجل تحقيق هذا التطلع، لكنه يتطلب منهم فهم واقعهم الراهن والسابق، وتحديد المعيقات والإمكانات والأدوات المناسبة حالياً ومستقبلياً. طبعاً؛ يشكل الاحتلال الصهيوني أهم تلك العوائق وأكبرها، نظراً إلى كونه احتلالاً ميدانياً أولاً، ولطبيعته الإحلالية ثانياً، وثالثاً بفعل دعمه دولياً. وعليه، يتطلب تحقيق الدولة التخلّص من الاحتلال ومؤسساته العنصرية والإحلالية. أي لا يكفي التخلص من الاحتلال فقط، كما حصل في تجربة قطاع غزة، إذ لم يفض انسحاب الاحتلال من قطاع غزة إلى شيءٍ يذكر، فليس هناك تحرّر ولا حرية ولا دولة ولا عودة ولا أي مظهر من مظاهر السيادة وتقرير المصير، نتيجة استمرار المنظومة الصهيونية العنصرية والإحلالية، التي تمارس دورها في تطهير شعب فلسطين وأرضها عبر وسائل أخرى، كالحصار والاعتداءات الدورية، وغيرها من الوسائل.
في الختام؛ قد يتعجّب بعضهم من نيل شعوب مُستعمرة عديدة استقلالها ودولتها الوطنية بسهولة نسبياً، عبر طرق لا تخلو من التفاوض؛ أو تنتهي به؛ وهو ما يفشل كلياً في الحالة الفلسطينية! إذ يعود ذلك إلى الاختلاف في طبيعة الاحتلال، بين احتلال استعماري تقليدي يسعى إلى نهب خيرات الدول المحتلة وثرواتها عبر الاحتلال المباشر أو غير المباشر، وبين احتلال إحلالي يسعى إلى الاستحواذ على الأرض كامل الأرض، عبر تصفية سكانها الأصليين واستبدالهم بمستوطنين من خارجها، فالشكل الأخير غير قابل للتفاوض مع منظومته العنصرية والإحلالية التي يجب هدمها وتفكيكها كاملةً أولاً.