حوار فلسطيني لافت في إسطنبول
بدا حوار حركتي فتح وحماس أخيراً في إسطنبول لافتاً من حيث الشكل والمضمون، مع دلالات صريحة وواضحة تتعلق بالمكان والزمان وحتى ما انتهى إليه من نتائج يُفترض أن تلقي حجراً كبيراً في المياه السياسية الفلسطينية الراكدة. وهو حوار يعقد لأول مرة في تركيا. وعلى عكس ما يعتقد كثيرون، عقد بناء على رغبة واضحة وصريحة من الرئيس محمود عباس الذي طلب مباشرة من الرئيس أردوغان في الاتصال الهاتفي بينهما في 21 الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) دعم جهود المصالحة وإنهاء الانقسام، مع طلب بإرسال مراقبين أتراك للإشراف على الانتخابات بصفتها بوابة المصالحة وإنهاء الإنقسام، وللتأكيد على نزاهتها وشفافيتها ضمن مراقبين دوليين آخرين. وقد فعل عباس ذلك ردّاً مباشراً على محور التطبيع العربي الذي يضم أبوظبي والرياض والقاهرة والمنامة، خصوصاً بعد الذي جرى في جامعة الدول العربية، عندما أسقط المحور المذكور، بفظاظة وغطرسة، مشروع قرار فلسطيني يدين التطبيع (التحالف) الإماراتي الإسرائيلي، كما الانتهاك الفظّ والخروج عن مقرّرات الجامعة نفسها، بما فيها المبادرة العربية للسلام التي ربطت التطبيع بحلٍّ عادل، يرتضيه الفلسطينيون وفق الشرعية الدولية وقراراتها.
وثمّة سبب سياسي آخر خلف طلب عباس، يتعلق بدعم تركيا الفلسطينيين في مواجهة التحدّيات الثلاثة المطروحة أمامهم، وهي "صفقة القرن" الأميركية وخطة إسرائيل ضم أراضٍ فلسطينية والتطبيع (التحالف) الإماراتي الإسرائيلي. كما يعي عباس طبعاً أن أنقرة قريبة وداعمة لمواقفه السياسية المعلنة، سواء فيما يتعلق بحل الدولتين وفق الشرعية الدولية والمبادرة العربية، أو اعتماد العمل السياسي والدبلوماسي من أجل الحصول على الحقوق الفلسطينية المشروعة.
وكان وزير الخارجية التركي، مولود شاويش أوغلو، قال، مرة وعلناً، إنه نصح "حماس" باتباع تلك الوسائل السياسية والدبلوماسية من أجل الوصول إلى أهدافها. وما كانت الحركة لترفض طبعاً اللقاء في تركيا، حفاظاً على العلاقة الجيدة معها، وإقامة شخصيات حمساوية وازنة فيها، غير أنه أفيد بأن مثلثها القيادي، إسماعيل هنية ونائبه صالح العاروري وقائد غزة القوي يحيى السنوار، كان يفضل عقده في بيروت، لعدم إغضاب النظام المصري، الذي ردّ على طريقته الدموية والإجرامية عبر استهداف الصيادين في بحر غزة، كما حليفها الجديد القديم حزب الله الذي تشن دوائر إعلامية تواليه حرباً ضروساً ضد تركيا ومواقفها وسياساتها في المنطقة.
نحن بصدد استضافة تركية، لا رعاية ولا وساطة، حيث عقد الحوار في القنصلية الفلسطينية في إسطنبول، من دون مشاركةٍ تركيةٍ على أي مستوى
على الرغم من ذلك كله، يجب الانتباه إلى أننا بصدد استضافة تركية، لا رعاية ولا وساطة، حيث عقد الحوار في القنصلية الفلسطينية في إسطنبول، من دون مشاركةٍ تركيةٍ على أي مستوى، مع دعم واضح طبعاً للحوار بين الحركتين، وما يتمخّض عنه من نتائج، كما المواقف الفلسطينية تجاه التحدّيات المركزية الثلاثة، "صفقة القرن" وخطة الضمّ التي علقت فقط، والتطبيع (التحالف) بين الإمارات وإسرائيل.
الحوار الثنائي المباشر والممتد شهوراً بين حركتي فتح وحماس، وفي ساحات وأماكن مختلفة من دون رعاية أو وساطة من أحد، يؤكّد أن زمن الوساطة الخارجية في الملف الفلسطيني قد انتهى، وتحديداً الوساطة المصرية التي توقفت أصلاً ومنذ شهور عن رعاية حوارات "فتح" و"حماس"، ثم فشلت القاهرة في التوصل إلى تهدئة بين "حماس" وإسرائيل في غزة، على الرغم من أن الملف كان حصرياً لديها سنوات طويلة. وعودتها إلى الوساطة في صفقة تبادل الأسرى بين المقاومة والاحتلال يمثل استثناءً يثبت القاعدة ولا ينفيها، ويتعلق أساساً بتماهي النظام مع السياسات الأميركية الإسرائيلية العامة في المنطقة، بمعنى أن انخراطه في هذا الملف تحديداً يخدم تلك السياسات الراغبة في تحقيق التهدئة الطويلة في غزة وتأبيد الانفصال بينها وبين الضفة الغربية، من دون تجاهل تحقيق فائدة فلسطينية من الصفقة تتمثل بإطلاق سراح أسرى من أصحاب المحكوميات الطويلة، كما تحسين جدّي للأوضاع الكارثية والمأساوية في غزة.
زمن الوساطة الخارجية في الملف الفلسطيني قد انتهى، وتحديداً الوساطة المصرية التي توقفت أصلاً ومنذ شهور عن رعاية حوارات "فتح" و"حماس"
وفيما يخص نظام عبد الفتاح السيسي، لا يمكن الجدال طبعاً في حقيقة أنه ضعيفٌ ومأزوم داخلياً وخارجياً، كما أنه لا يستطيع قيادة حوارات الفصائل الفلسطينية، أو رعايتها أو استضافتها، بشأن التحدّيات الثلاثة، كونه متواطئاً ومتورّطاً فيها، هو عرّاب "صفقة القرن"، كما يقول مسؤولون فلسطينيون في مجالسهم الخاصة، وصمت عن خطة الضمّ حتى قبل تعليقها، ورفض وزير خارجيته المشاركة في لقاء عربي ثلاثي في رام الله، في يونيو/ حزيران الماضي، لإعلان موقف رافض لها، كما أنه داعم علني للتطبيع التحالف - الإماراتي الإسرائيلي، ورفض إدانته في جامعة الدول العربية، بعدما بات ملحقاً أو تابعاً للنظام الإماراتي وسياساته الكارثية في فلسطين وساحات عربية أخرى. كذلك يقول وعن حق أيضاً مسؤولو السلطة في أحاديثهم الخاصة.
جاءت نتائج الحوار لافتةً أيضاً في ملفات النقاش الأساسية الثلاثة، الانتخابات والحكومة وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، وقبل ذلك وبعده، كيفية إنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة وتأسيس شراكة وطنية راسخة بين حركتي حماس وفتح التي كانت قد اعتبرت الإنتخابات الفورية بمثابة البوابة إلى إنهاء الانقسام، على أن تجرى بالتعاقب، وليس بالتزامن، تشريعية ثم رئاسية، وأخيراً للمجلس الوطني وفق النظام النسبي الكامل، وتشرف عليها الحكومة الحالية، على أن يتم النظر في تشكيل حكومة الوحدة الوطنية بعد الانتخابات. وشيء مماثل طرحته الحركة، فيما يتعلق بإعادة بناء منظمة التحرير، إذ يتم التوافق على تفاصيل إعادة بنائها أو إصلاحها بعد انتخابات المجلس الوطني.
ومن جهتها، طالبت حركة حماس بانتخابات متزامنة وفق النظام المختلط، النسبي والفردي، لدواعٍ أمنية خاصة في الضفة الغربية، تشرف عليها حكومة وحدة وطنية، تعمل على تهيئة الظروف المناسبة أمامها، كما طالبت بالشروع فوراً في عملية إصلاح منظمة التحرير وإعادة بنائها، عبر تفعيل الإطار القيادي المرجعي الأعلى كقيادة مؤقتة، إلى حين التوافق على كيفية إعادة بناء المنظمة، كي تصبح ممثلة لكل الفلسطينيين من دون استثناء.
طالبت حماس بانتخابات متزامنة وفق النظام المختلط، النسبي والفردي، لدواعٍ أمنية خاصة في الضفة الغربية
بدت النتائج وكأنها تسوية أو حلول وسط بين مواقف الطرفين، إذ تم التوافق على انتخاباتٍ متعاقبةٍ، ولكن ضمن سقف زمني محدّد بستة أشهر، وتشرف عليها حكومة محمد اشتية "الفتحاوية" الحالية، على أن يتم الشروع فوراً في حواراتٍ بشأن شكل حكومة الوحدة الوطنية ومضمونها، والشيء نفسه فيما يتعلق بمنظمة التحرير الفلسطينية، بمعنى أن إعادة بنائها مؤجّلة إلى ما بعد انتخابات المجلس الوطني، على أن يتم الشروع فوراً في حوار بشأن آليات إصلاحها وتفاصيله.
وكان الرئيس عباس قد أعلن، قبل عام، من على منبر الأمم المتحدة عن نيّته إجراء انتخابات عامة رحّبت بها حركة حماس مباشرة، لكنه أزالها بعد ذلك عن جدول الأعمال، بحجة التصدّي لصفقة القرن وخطة الضم. والآن يطرح منطقاً معاكساً يرى أن الانتخابات هي البوابة لتجديد الشرعيات، وتمتين الجدار الفلسطيني في مواجهة التحدّيات، وطبعاً لتحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام. وهذا المنطق هو الصحيح، ولا يمكن تصوّر تحقيق أي إنجازٍ فلسطيني جدّي، من دون انتخابات نزيهة وشفافة، لتجديد الشرعيات وإفراز قيادةٍ جديدةٍ قادرة على مواجهة التحدّيات الراهنة.
ومن هنا، ستلقي الانتخابات بالتأكيد حجرا كبيراً في المياه الراكدة حزبياً ووطنياً، لكنها لن تكون قادرةً وحدها على تحقيق الشراكة الوطنية المؤسساتية الراسخة، بغياب حوار ديموقراطي ومسؤول، للتوافق على السبل الكفيلة بإبقاء القضية الفلسطينية حيةً سياسياً وميدانياً، محلياً وإقليمياً ودولياً، في مواجهة مساعي تصفيتها وشطبها عن جدول الأعمال، أو إبقائها ضمن مستوى منخفض يمكن التعايش معه، بحيث لا يستطيع التشويش أو عرقلة مسيرة التطبيع (التحالف) الناشئة بين الدول العربية وإسرائيل.