حين أشهر الشعب التركي بطاقته الصفراء
بدا الموقف التركي بشأن أحداث غزّة، في خطّه البياني تصاعدياً في شهري أكتوبر/ تشرين الأول ونوفمبر/ تشرين الثاني الماضيين، لكن هذا الخطّ سرعان ما انخفض حتى غاب عنه ذلك الموقف تماماً في الأشهر التي ازداد زخم التحضير للانتخابات المحلية في الأشهر الأولى من العام الجاري (2024)، لنراه بعد الانتخابات في تصاعدٍ مفاجئ. فقد كثّف وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، من تحرّكاته الدبلوماسية وتصريحاته، ورافقها تصريحات الرئيس رجب طيب أردوغان وعدة وزراء بشأن جدية موقف بلادهم ضد إسرائيل وفاعليته. وواصل ذلك الخطّ البياني ارتفاعه إلى أعلى نقطة، حينما أعلنت أنقرة تقييدها 54 مادة في التجارة مع إسرائيل، بل لم يتوقّف عند تلك النقطة، إنما استمرّ في الارتفاع، حتى أعلن الرئيس التركي، أردوغان، تلويحه بقطع جميع العلاقات مع إسرائيل، وفي مقدمتها العلاقات التجارية، مع تصريحاته عن انهيار المنظومات الأخلاقية والحقوقية عند الغرب وأميركا أمام دفاعهم عن إسرائيل.
يمكن قراءة تصاعد الخطّ البياني في سياق الانتخابات المحلية ونتائجها، سيما حينما نرى أن حزب العدالة والتنمية يبدأ في العمل جدّياً لمعالجة ما أسماها أخطاء الانتخابات. ولذلك ليس مستغرباً أن نرى الرئيس أردوغان يوجّه رسائل ملاطفة إلى المعارضة من أجل التوافق على ملفّات عالقة كتغيير الدستور. وهو لم يكن لينطق باسم رئيس حزب الشعب الجمهوري الجديد أوزغور أوزال طوال فترة الدعاية الانتخابية، تعالياً منه على ضعف أداء الرجل وقلّة خبرته، لتضطرّه النتائج غير المتوقّعة التي جاءت لمصلحة أوزغور إلى تبادل تهاني العيد مع هذا الشاب، ومن ثم إطلاق غزلٍ متبادلٍ لإمكانية اللقاء ومناقشة ملفّات ذات اهتمام لكلا الطرفين. ومن ثم يُفاجأ الشارع بصور لقاء شاي يجمع أردوغان وشخصيات وازنة من حزبه مع أوزغور وفريقه البرلماني على هامش احتفال البرلمان بعيد السيادة الوطنية مساء 23 الشهر الماضي (إبريل/ نيسان). وتوحي صور الابتسامات والتصريحات بارتياح سياسي في اللقاء، وهذا ما دفع الصحافة التركية إلى الحديث بتفاؤل عن إمكانية إنهاء حالة الاستقطاب الحادّ بين الساسة ومكوّنات المجتمع التركي.
ماذا يخبئ الطرفان أحدُهما للآخر؟. ... من المنتظر أن يتحدّث أوزغور مع أردوغان عن إمكانية دعم البلديات التي خسرها "العدالة والتنمية" لمصلحة حزب الشعب الجمهوري، لأن رؤساءها السابقين تركوا تلك البلديات بديون ثقيلة بحسب تصريحات أوزغور. كما سبق أن لوّح أوزغور بإمكانية التوافق لتغيير الدستور مقابل تفعيل آليات تطبيق الحرّيات المنصوص عليها في الدستور الحالي، وفي هذا إشارة إلى مطالبة أوزغور بالإفراج عن معتقلي الرأي، المقرّبين من صفوف الحزب أو المنتمين إليه، مثل النائب جان أتالاي وعثمان كاولا وغيرهما من الموقوفين بتهم تخصّ أحداث حديقة غيزي في إسطنبول عام 2013.
تفاؤل عن إمكانية إنهاء حالة الاستقطاب الحادّ بين الساسة ومكوّنات المجتمع التركي
ويُذكر أن أردوغان منذ فوزه في الانتخابات الرئاسية صيف 2023، وهي آخر دورة له، بدأ بالحديث عن رغبته في تغيير الدستور، والقول إن هذا الدستور جاء على خلفية انقلاب 1980، وإنه يقيّد حرّيات وتشريعات كثيرة. لذلك لا بد من تتويج المئوية الثانية للجمهورية التركية بدستور جديد. ووفق المادة 175 من الدستور، يحتاج قبول أي مقترح بتغيير الدستور موافقة 360 نائباً (من 600)، ويمتلك "العدالة والتنمية" بمفرده 268 مقعداً، ويمتلك حليفه الحركة القومية 50 مقعداً، ومن ثم هو في حاجة إلى نحو 40 صوتاً يزيد أو ينقص صوتين. ثم سيضطرّ "العدالة والتنمية" إلى التعامل مع حزب الشعب الجمهوري باعتباره أحد أفضل الخيارات من أجل تمرير تغيير الدستور إذا ما أراد ذلك. كما أن الذهاب إلى انتخابات مبكّرة يحتاج إلى موافقة 360 صوتاً برلمانياً، وبذلك يستطيع أردوغان أن يتقدم إلى الانتخابات مرّة أخرى.
حاز حزب الشعب الجمھوري، وفق نتائج الانتخابات المحلیة، على الثقل السكاني الأكبر الذي سیستفید من خدمات بلدیاتھا، فقد فاز على ما مجموعها 35 بلدیة كبرى یقطنھا نحو 53 ملیون نسمة من أصل 80 مليون (مجموع سكّان تركیا)، أي یمتلك 62% من سكان البلاد. أما الثقل الصناعي وخطوط الموانئ البحریة وخطوط التجارة الرئیسية فتتمركز في معظم المدن التي یسیطرعلى بلدیاتھا حزب الشعب الجمھوري، ما یجعل حصّة تلك المدن من الصادرات فقط نحو 203 ملیار دولار سنویاً من حصیلة الصادرات السنویة البالغة 255 ملیار دولار لعام 2023 وفقاً لھئیة الإحصاء التركیة. ومن ثم، یمتلك حزب الشعب الجمھوري قوة اقتصادیة أكبر من الحزب الحاكم إلى جانب القوة العددیة للناخبین، والأھم أن "الشعب الجمھوري" حقق ھذا التقدّم بمفرده من دون وجود طاولة سداسیة أو تحالف مع المعارضة، وإنْ باتفاقٍ غیر معلن مع الأكراد، فإذا ما نجحت قیادة الشعب الجمھوري من وضع تلك الإمكانات في سیاق اقتصادي، كتأمين فرص عمل جديدة في تلك المدن، فقد یمتلك القدرة على إطاحة غریمه حزب العدالة والتنمیة. لذلك سيعمل أردوغان على عدم إعطاء الوقت الكافي لحزب الشعب الجمهوري للاستفادة من هذه الإمكانات، من خلال ترغيبهم في الانتخابات المبكّرة، مستفيداً من تعطّشهم للوصول إلى السلطة، وبذلك يكون قد منح نفسه فرصة الترشّح للانتخابات مرّة أخرى، لكن "العدالة والتنمية" يحتاج، في الوقت نفسه، إلى وقت كافٍ لتغيير الأرقام الاقتصادية التي أزعجت الناخب التركي كمعدلات التضخّم وقيمة الليرة وقوتها الشرائية، فهل يمتلك الحزب تلك الرفاهية من الوقت.
نقاشاتٌ عن مدى إمكانیة "العدالة والتنمیة" وقدرته على إعادة إنتاج نفسه، وتقدیم خطابٍ یبتعد عن لغة تخوین الآخرين وشیطنتهم
لو نظرنا إلى تاریخ الجمھوریة، نجد أن حزب الوطن الأم بقیادة الرئيس الأسبق الراحل تورغوت أوزال (1993) یتقارب في مسیرته ونشأته مع "العدالة والتنمیة". ربما یكون بخطاب أقلّ تمایزاً عن الأخير، نظراً إلى ظروف الثمانینيات عقب انقلاب 1980. فقد كسب "الوطن الأم" دورتین انتخابیتین متتالیتین من الانتخابات التشریعیة 1983 و1987، حیث كانت نسبته في الأخیرة نحو 36%، وفاز في انتخابات البلدیة عام 1948 بنسبة 41,5%، وسیطر على 55 بلدیة كبرى من أصل 67 مدینة. لكن الفشل الاقتصادي في السیاسات الداخلیة للحزب انعكس على نتائج انتخابات البلدیة عام 1989، حیث تراجعت نسبته إلى 21,8%، وخسر مدناً مھمّة كثيرة، وانعكس ذلك على نتائج الانتخابات التشریعیة عام 1991، ليخرج من السلطة، وبعدها كانت بداية خروجه من المشهد السياسي.
على أنقاض الفترة التي تلت تراجع حزب الوطن، نھض "العدالة والتنمیة" لیصل إلى الحكم عام 2002. قیاساً بین تلك المرحلة والیوم، نجد أن انتكاسات الأخير بدأت نھایة 2014، حیث استطاع أن یصمد في الانتخابات البلدیة، رغم انفكاك جماعة فتح الله غولن ذات الطابع الإسلامي عنه، وحشدھا لمصلحة خصمه "الشعب الجمھوري"، أعقبتھا انتخابات برلمانیة في 2015، وتراجعت الأصوات إلى درجة عدم القدرة على تشكیل حكومة بمفرده، وبسبب فشل تشكیل حكومة ائتلافیة، أعیدت الانتخابات بعد أشهر. وعقب محاولة الانقلاب عام 2016، انحاز خطابه باتجاه الناخب القومي متحالفاً مع الحركة القومية، في خوض جميع استحقاقاته الانتخابية منذ ذلك الحين.
تراجع في أداء الحزب الحاكم في تركيا یرافقه تراجع في التأیید من داخل كتلته التقليدية المحافظة
إذن، یمكن القول ثمّة تراجع في أداء الحزب الحاكم یرافقه تراجع في التأیید من داخل كتلته التقليدية المحافظة. ولھذا بدأت تثار داخل أوساط التیار المحافظ نقاشاتٌ عن مدى إمكانیة "العدالة والتنمیة" وقدرته على إعادة إنتاج نفسه، وتقدیم خطابٍ یبتعد عن لغة تخوین الآخرين وشیطنتهم، وإمكانیة التعامل بجدّیة مع ترھّلات الحزب الداخلیة، ومحاربة الفسادين، الإداري والقضائي، وتلبیة الطموحات الاقتصادیة للشارع بكل فئاتها العمریة وتیاراتھا المختلفة، وإمكانية استقطاب الشباب الذين يقدّر عددهم بنحو سبعة ملايين ناخب.
قصارى القول، أشهر الشارع التركي بطاقته الصفراء في وجه حزب العدالة والتنمیة، محذّراً من احتمالية إشهار البطاقة الحمراء، في حال لم يُجر معالجة جدّية لأخطائه. وهنا لا بد من القول إن ثمّة أصواتاً ما زالت تعتقد بقدرة أردوغان على لعب أوراقه في اللحظات الأخيرة، او كما يقول بعض أنصاره بإمكانه أن یُخرج لھم الأرنب من تحت قبّعته، قبل أي استحقاقٍ انتخابي، وأنه قادر على أن یستثمر في الأزمات، وأن یوقع المعارضة في ورطةٍ من خلال فوزھا بتلك البلدیات، إما بإفشالها عبر اتّباع سیاسة تقشّف عامة تقلّل من المیزانیات الممنوحة للبلدیات من خزینة الدولة وإعاقة المشاريع الجديدة، تحت ذریعة وضع خطط لتعافي الاقتصاد، وهذا ما بدأت ملامحه تتكشف في تصريحات وزير المالية محمد شيشمك، أو أن یستفيد من تعطّش الشعب الجمهوري للوصول إلى السلطة بإغرائهم بفوزهم ليدفعهم نحو انتخابات مبكّرة قبل أن يحصدوا ثمرات تقدّمهم في انتخابات البلدية، سيما أن مشكلات داخليةً وخلافاتٍ لا تزال تواجه أوزغور داخل حزبه، من أهمها كبح رئيسي بلديتي إسطنبول وأنقرة بالوصول إلى القصر الرئاسي، إضافة إلى إبعاد المكوّن العلوي عن قيادات الحزب.