حين تحكمنا الروبوتات
نشرت صحيفة الغارديان البريطانية يوم 8 الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) أول مقال صحافي (افتتاحية) كتبه بالكامل روبوت متطوّر، تم تكليفه بمهمة إقناع الناس بأن "الروبوتات مسالمة ولا تخطط للسيطرة على البشر". وكتب الروبوت في المقال: "أنا روبوت مفكّر، أنا أستخدم 0.12% فقط من قدرتي المعرفية، أنا روبوت صغير في هذا الشأن". الروبوت الذي يسمّى "جي بي تي 3" هو نموذج لغة متطوّرة يستخدم التعلم الآلي لإنتاج نصٍّ يشبه ما يحرّره الإنسان، هكذا تم توصيفه من مبرمجيه، أي أن "جي بي تي 3" صحافي، يمكن الإستعانة به لكتابة مقالات وافتتاحيات، بدلاً من البشر الذين يمتهنون هذه المهنة! ويمكن أن يتم تحميله بما يُراد من أفكار وبرمجته على ذلك، وتحديث أفكاره بناء على المعطيات السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية في العالم، كي يكون جاهزاً في أية لحظة لكتابة افتتاحية.
ليس الروبوت الصحافي هذا الاستثناء بطبيعة الحال، فقد تم استخدام روبوت تمّت برمجته ليكون جرّاحاً في عمليات جراحية خطيرة في المخّ والقلب. وتم استخدام الروبوتات في مستشفيات العزل في الجائحة الفيروسية. واستخدم الروبوت في مجالات عديدة بسيطة، كمساعدين في تنظيف في المنازل أو بائعين في المحلات الكبرى. وتم اختراع روبوت ليكون شريكاً جنسياً للوحيدين وهكذا. بيد أن استخدام الروبوت في الكتابة يبقى الحدث الأكثر إثارةً للجدل، فالكتابة فعل قائم ليس على اللغة فقط، بل على جملة أحاسيس ومشاعر ومواقف وانحيازات، تحتاج إلى قلب بشري حارّ وعقل وقّاد، غير متحقق الوجود في جهاز معدني مبرمج، ليكون خالياً من المشاعر والإنحيازات. لهذا ربما لم يثر استخدامه في العمليات الجراحية جدلاً كبيراً، إذ تحتاج بعض العمليات الخطرة لحالاتٍ حرجةٍ أعصاباً فولاذية كما يُقال. ومها كان الجرّاح متمرّساً، فإن احتمال الخطأ البشري يبقى وارداً جداً، مع ما يلي خطأ كهذا من شعور الذنب أو الكراهية والحقد وغيره، مما يمكن للروبوت الجرّاح أن يتجنّبه.
جاء الجدل بعد مقالة "الغارديان" تلك من الخوف البشري من أن حلول الروبوتات بدل الإنسان في كل المجالات بات وشيكاً، فإن أصبح الروبوت صحافياً، يمكنه إذن أن يكون موسيقياً وممثلاً وراقصاً وروائياً وشاعراً ورسّاماً ومترجماً، أي يمكنه أن يحلّ مكان الإنسان في المهن الفنية التي تحتاج إلى الخيال، الخيال الذي كان، حتى وقتٍ قريب، ينفي حلول الآلة مكان الإنسان في مهنٍ كهذه، لكن ما يبدو أن الخيال الفني للبشر أقلّ إبداعاً من الخيال العلمي الذي اخترع هذه الروبوتات، وبرمجها لتفعل ما تفعله، وتذهلنا وتخيفنا من المستقبل البشري المقبل.
تخيّلوا أن يحدث في البشرية كما يحدث في الأفلام، أن تطوّر الروبوتات نفسها وتتحوّر، كما يحدث للفيروسات التي تقضي على البشرية، وتتمرّد على مبرمجيها، وتبدأ بالفتك بصانعيها أولاً، وبباقي البشر لتحتل كوكب الأرض، أو تستخدم البشر كعبيد لها؟ هل سيعود زمن العبودية، ولكن الآلة التي اخترعها البشري ستكون هي المستعبِدة، عقاباً ربما على استعباد البشر بعضهم بعضاً، عقاباً على تدميرهم كوكب الأرض، عقاباً على الحروب والكراهية والموت والجوع والإفقار والإذلال، عقاباً على الإستبداد والإجرام والإحتلال، عقاباً على كل الظلم الذي تمارسه فئة قليلة، (هي من تموّل تصنيع الروبوتات وبرمجتها) على مليارات من البشر الذين لا يريدون شيئاً سوى العيش بما يحفظ كرامتهم الإنسانية وسلامهم، بعيداً عن صناعة الحروب والموت والكراهية، بعيداً عن التسليع والإستهلاك، بعيداً عن التصرّف بكوكب الأرض، كما لو أنه شركة محكومة من مافيات تتصارع وتتحالف، حسب مصالحها، وتدفع شعوب الأرض ثمن هذه الصراعات والتحالفات.
لا أظن أن شيئاً كهذا يمكنه أن يكون مستحيلاً أو مجرّد خيال، فما يصنعه البشر من تدمير لكوكب الأرض، والتنمر على باقي المخلوقات على الكوكب، والإستعلاء على مليارات الشعوب الفقيرة واستخدامها كما لو أنها فئران لتجارب القوة واستعراضاتها، لا يمكن أن يستمر طويلاً أو أن يمرّ من دون عقاب. ولا أدري لماذا كنت دائماً مقتنعة بأن العقاب سوف يكون من صنع البشر أنفسهم، سوف يصنعون بأيديهم العقاب الذي يستحقونه! أتخيّل أن العالم تحكمه الروبوتات (ستكون أكثر حكمة وعدلاً وإنسانية من حكام العالم الحاليين)، وأنها تبرمج البشر كما تشاء، وأتخيّل أن باقي مخلوقات الكوكب: الحيوانات والحشرات والنباتات، تعيش بسلام وأمان، إذ إنها الوحيدة التي تستحقّ أن ترث الأرض التي دمّرها البشري بتعجرفه واستعلائه.