خاشقجي وإن صَمَت: شهيد أكتوبر
"أغادر لندن وفلسطين في البال"
"في عالمنا يحاولون تغييب فلسطين، لكسر الغضب فينا، ولكنها حاضرة في ضمير كل مواطن… وان صمت".
تلك كانت تغريدة جمال خاشقجي الأخيرة، قبل أن يسافر من لندن إلى اسطنبول، ليستقبله المتصهينون العرب، بكل هذه الخسّة والفظاعة، فيختفي، ثم يظهر في صورة خبر صغير مقتضب يقول "جمال خاشقجي قُتِلَ داخل القنصلية السعودية في اسطنبول بعد تعذيبه، حتى تقطيع جثته".
في السادس من أكتوبر/ تشرين أول أعلنوا نبأ اغتياله، إنها ذكرى الحرب التي اخترع لها "عطية الرب إلى إسرائيل" في القاهرة تعريفًا جديدًا، وهي أنها كانت معركة من أجل الحصول على السلام مع العدو، هذا العدو الذي بات يعاني ازدحامًا شديدًا في طابور العرب من طالبي التطبيع معه، حمايةً لعروشهم، أو تسوّلًا لوصولٍ آمنٍ وسريعٍ إلى السلطة من الطامحين في الحكم، ولو مشيًا فوق أشلاء فلسطين.
أمضى خاشقجي سنواته الأخيرة مدافعًا ببسالة عن الربيع العربي، في سورية ومصر واليمن وليبيا وتونس، وأتذكّر تلك الليلة من ليالي الثورة المصرية في نهاية العام 2011 حين التقينا في القاهرة، وتجولنا في ميدان التحرير بعد منتصف الليل، يطالع شعارات الغرافيتي التي نقشها الثوار على حوائط شارع محمد محمود، ويلتقط الصور التذكارية لشبابٍ صغير، يسهر على ثورته في ميدانها الأكبر.
في الثورة السورية، كان خاشقجي حاضرًا، يكتب بدمه لا بالحبر، ينتحب من أجل الغوطة وحلب وإدلب، يحلم باستفاقة للضمير الإنساني، واستقامة للموقف العربي تنهي المذابح بحق الشعب السوري.
ذات يوم من أيام العام 2015، ومع رحيل العاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز، وصعود سلمان إلى العرش، كانت السذاجة المفرطة تدفع بعض الإعلام المصري لتوصيف جمال خاشقجي بأنه "كاتب سلمان"، وتتفاقم هذه السذاجة إلى شيءٍ من البلاهة، يذهب ببعضهم إلى حد قياس الموقف السعودي الرسمي من المأساة في مصر وسورية بمضامين تغريدات خاشقجي وكتاباته، حتى أصدرت السعودية بيانًا يقول إن هذه الكتابات لا تعبّر عنها، موقفًا أو رؤيًة.
في تلك الأثناء، غرّد جمال ذات صباح قائلًا "الموقف المصري من العدوان الروسي في سورية قد يتغيّر بإذن الله".
وكان ردي عليه تحت عنوان "مسافة السكة: أو عقيدة الديليفري"، فقلت إن السيسي والحوثي والأسد وحفتر رفقاء مشروع واحد، حتى وإن اختلفت روافد الدعم الإقليمية. وبالتالي، تبدو المنطقة كلها وكأنها متجهةٌ إلى جحيم مستعر، سيكتوي به أولئك الذين أطلقوا العنان لأدوات المشروع المعادي لثورات الربيع العربي.
ولم يمض وقت طويل، حتى بان للكل أنّ الموقف السعودي الرسمي، إن مع عبد الله أو سلمان، هو في القلب من محور العداء المطلق لثورات التغيير في الوطن العربي، هذا المحور الذي التهم جمال خاشقجي نفسَه فيما بعد، بعد أن أخرجوه وطاردوه في المنافي، حتى انتهى به الحال شهيدًا، على الأرجح حتى الآن، في واحدةٍ من أقذر عمليات التصفية في التاريخ.
كان الربيع العربي الذي حلم خاشقجي بتعافيه وانتصاره المشروع المكمل للحلم العربي في التحرر من العجز والمهانة وقلة القيمة، وكانت فلسطين في قلب صنّاعه، يهتفون باسمها في الميادين، ويربطون الأمل في الانعتاق من الاستبداد والطغيان، بالحلم في التخلص من الاحتلال، احتلال الأرض واحتلال القرار الرسمي العربي.
فيما كان القتلة مع المشروع الآخر، ليكوديين أكثر من الليكود الإسرائيلي ذاته، مخلصين للكيان الصهيوني أكثر من صقور الصهاينة وحمائمهم.
هنا تصبح، يا جمال خاشقجي، لو صحّت الأخبار المزعجة عن رحيلك، في عداد شهداء المعركة من أجل فلسطين.. رحلت في أكتوبر، أيضًا، فداءً للثورة وللإنسانية وللعدل وللحرية وللحق.
وعلى الرغم من ذلك، يا عزيزي جمال:هل تعلم أن فكرة الكتابة في رثائك أقسى من الموت؟
وأن أملًا لا يزال يحدوني في أن يكون القتلة أقلّ سفالة من فكرتنا عنهم؟
سلام عليك حيًا وميتًا، أيها الشهيد.