خداع التايتانيك... والموت "العددي" للفلسطينيين
استغرق غرق السفينة تايتانيك في عرض البحر، كما عرض الفيلم المشهور (1997)، ساعات طويلة، واجه فيها ركّابها رحلة موت تدريجي بالغة المأساوية. خلال تلك الساعات القاتلة، كانت يد الموت تطبق رويداً رويداً على أنفاس أكثر من 2500 إنسان، ولاحقتهم مع بطش الماء الذي غمر كل أنحاء السفينة وغرفها وكابيناتها. رأى الملايين الذين جمّدهم الفيلم أمام الشاشات مئات الركّاب، رجالاً ونساءً وأطفالاً، يتدحرجون على أرض السفينة، إذ يتسارع ميلانها وانقلابها، ثم يسقطون في مياه المحيط، أو يعلوهم ما تسرّب منها إلى السفينة شيئاً فشيئاً في زوايا وأقبية مغلقة، إلى أن يكتم أفواههم وأنوفهم. لكن كل هؤلاء المتساقطين في فم الموت وصرخاتهم وآلامهم كانوا مجرّد ديكور تجميلي للقصة الدرامية الأم. لم تكن قصة الفيلم وسرديته الأساسية أولئك، بل كانت مصير العاشقين روز وجاك، نجمي الفيلم. احتلا قلب الصورة وجوهر تركيز الكاميرا ومتابعتها. في الخلفية البعيدة للمشهد، كان تساقط الناس وموتهم وآلامهم ضرورة تكميلية "جمالية" ليس أكثر.
القصة الأم هنا هي ترقب نجاة العاشقين روز وجاك والخوف عليهما من الغرق: احتمال موتهما كان التراجيديا المُكثّفة بشكل مذهل ومؤثر وآسر. تأكد موت مئات الركاب الآخرين وغرقهم لم يكن مهماً، مجرّد أرقام، أفراد لا وجوه لهم ولا حياة تستحق الاهتمام. مرّ الموت المتكرّر لهؤلاء على نحو "عادي". لم يثرْ في قلوب المشاهدين عشر معشار التضامن واللهفة والحزن الذي حظي به نجما الفيلم. استحوذ روز وجاك على حركة الكاميرا وتركيزها طوال الساعات الثلاث، وخلالها تابع المشاهدون كل كلمة نطقاها، أو نظرة تبادلاها، أو شهيق تنفسّاه. هذا العبث الدرامي بقيم التعاطف الفردي والجماعي أنتج صورة مشوّهة لأحاسيس التضامن العفوي والفطري: يتألم المشاهدون لمصير روز وجاك بكل عمق وتأثر وبكاء وترقّب، لكنهم لا يتألمون بالمثل أو عُشر المثل لمصير المئات وموتهم. لم يتعرّف متابعو الفيلم المُخادع حتى على بعض الركاب الآخرين إلا على نحو سطحي وعابر، فضلاً عن تذكّر أسماء أيٍّ منهم. وفي أثناء المشاهد التفصيلية والممغوطة لغرق السفينة الكبيرة، كانت أنظار الجميع ولهفتهم تلاحق صراع البقاء الذي بذله روز وجاك.
عندما ينتقل الشكل الدرامي المُتّبع في الأفلام الشعبوية إلى ممارسة سياسية وإعلامية في واقع البشر والعالم، نواجه حالة من الانحطاط الأخلاقي شديدة الانحدار
حطّم الفيلم أرقام مشاهدة قياسية كثيرة، وحصد جوائز غير مسبوقة، ودخل تاريخ السينما واحداً من أهم ما أنتجت. في لقاء متلفز خلال السنة التي عُرض فيها الفيلم، قالت سيدة بريطانية مبهورة به إنها حضرته أكثر من ثمانين مرّة، وفي كل مرة كانت تنتحب بكاءً على مصير جاك الغارق، وروز الناجية بصعوبة من ابتلاع البحر. التسويغ السريع لهذا الاختلال في تصنيع التعاطف الفردي مقابل إهمال الجمعي هو الضرورة الدرامية، لكونها جوهر الشكل الفني، فيلماً أو رواية. يقوم الادّعاء الدرامي على التفصيل في بطولة ومعاناة وأحاسيس وتجربة فرد أو أفراد محدودين، مُعرّفين بالأسماء والوجوه، ونسج علاقة عاطفية تضامنية بينهم والمشاهد أو القارئ. الجموع التي لا أسماء ولا وجوه لها مجرّد تشكيل عددي تكميلي في أي قصة.
لنا أن نتفق أو نختلف في مجال الدراما وفردانية التركيز كيف شئنا. لكننا، عندما ينتقل الشكل الدرامي المُتّبع في الأفلام الشعبوية إلى ممارسة سياسية وإعلامية في واقع البشر والعالم، نواجه حالة من الانحطاط الأخلاقي شديدة الانحدار. قصدية تبهيت التعاطف مع آلاف الضحايا نساءً وأطفالاً وكبار سنّ مقابل حشد تعاطف مُذهل مع ضحايا أفراد ومعدودين، يعني أن تلاعباً هائلاً يتم في تنسيب قيمة حيوات البشر تبعاً لهوّياتهم الإثنية أو الدينية. في حرب الإبادة الإسرائيلية ضد أكثر من مليوني فلسطيني في قطاع غزة، وقتل ما يقارب العشرين ألفاً، أغلبهم أطفال ونساء، نشهد تمثُّل واحدة من ذرى هذا الانحطاط. ناس غزّة، ركّاب السفينة المحاصرة منذ أكثر من 16 عاماً، ليس لهم وجوه ولا أسماء، وعندما يُقتلون ويدفنون تحت الركام ويُجرحون بالآلاف، فإنهم غير مهمّين: مجرّد أرقام تتبدل وتتزايد كل يوم. هم ركاب السفينة الذين يسقطون تباعاً في البحر، والكاميرا تتابعهم أحياناً من بعد (zoom out) ولا تهتم بهم إلا على نحو هامشي. القصّة المهمّة في هذه الحرب، حيث الدراما الدموية حقيقية يقودها مخرجون جزّارون، هي قصة روز وجاك الإسرائيليين. وهنا لا تظل الكاميرا قريبة وتفصيلية على الدوام (zoom in). روز هي القتلى الإسرائيليون في 7 أكتوبر، وجاك هو الرهائن الإسرائيليون الذين تناقص عددهم إلى 130. ضجّ كل العالم الغربي، سياسيوه وإعلاميو مؤسّسته الرسمية، حزناً وتعاطفاً على روز وجاك الإسرائيليين من اليوم الأول وحتى اليوم السبعين للحرب. حين التقى الرئيس الأميركي بايدن بأهالي بعض الرهائن، وأغدق في التعبير عن تعاطفه معهم، ولم ينطق بأي تعاطفٍ مع عشرات الآلاف من الضحايا الفلسطينيين. أي مقارنة سريعة تعتمد تحليل المضمون لخطابات الرؤساء والمسؤولين الغربيين ومضامين تغطيات شبكات الإعلام الغربي الكبرى ستكشف لنا "خداع التايتانيك" المنسوخ من الدراما والمطبّق على أرض واقع فلسطين.
تشتغل ماكينة الإعلام الإسرائيلي، ومعها الإعلام الأميركي العام، في "تعريف" الضحايا الإسرائيليين ونقل قصصهم الحياتية
قد يتبدّى "خداع التايتانيك" مجرّد عبث يمارسه مخرجو الدراما وكتّاب الروايات، فيه جموح خيالٍ لا يُقبل في الواقع. لكنْ ثمّة أصل علمي لهذا التعابث، جذره في علم النفس الجمعي، حيث يُفرّق بين أثر الموت المُعرّف وثر الموت العددي (Identifiable death effect versus statistical death effect). تبعاً لهذا التفريق المُثبت بحثياً، ينزعُ الناس إلى التعاطف مع الموت المُعرّف، أي موت فرد معروف أو أفراد قليلين معروفين اسماً ووجها وألماً وتجربة، أكثر بكثير من تعاطفهم مع الموت العددي، حتى لو كان مهولاً لأُناسٍ غير مُعرّفين، مثل قتلى الزلازل والحروب والكوارث الطبيعية. مقتل فرد في الحيّ إثر حادثة دهس من سيارة يكون أكثر مأساوية لأهل الحيّ الذين يعرفونه عن قرب من مقتل عشرة آلاف شخص في زلزال في قارّة أخرى، رغم تعاطفهم الصادق مع هؤلاء الضحايا. في حالة حرب الإبادة على غزّة، ماذا تعني الضحايا من الطرفين لبقية شعوب العالم التي تراقب الحرب من بعد؟ من ناحية نظرية هناك ضحايا يسقطون "بعيداً" (zoom out) ولا يقعون تحت تعريف الموت المُعرّف الذي يولّد تعاطفاً قوياً وجياشاً مع الضحايا. هنا يتدخّل الخطاب السياسي والإعلامي ومؤسّسات المال والتأثير الذي يقرّب فئة محدّدة من الضحايا (الإسرائيليين هنا) إلى المشاهد من خلال آليات التركيز الحميمي المكثف (zoom in) وتغطية ما تعرّضت له بكل التفصيل الممكن. التغطية المُكثفة تبرز وجوه هؤلاء الضحايا الاسرائيليين وأسماءهم وتجاربهم وحيواتهم، وتنقلهم من الموت العددي إلى الموت المُعرّف للمشاهدين في كل القارّات، لضمان التعاطف معهم – تحويلهم إلى روز وجاك التايتانيك. في المقابل، تُهمَل الغالبية الكاسحة من الضحايا (الفلسطينيين هنا) وتهميشها، والإبقاء عليهم في سياق الموت العددي، إذ لا وجوه ولا أسماء ولا حرارة إنسانية ترافق موتهم. تشتغل ماكينة الإعلام الإسرائيلي، ومعها الإعلام الأميركي العام، في "تعريف" الضحايا الإسرائيليين ونقل قصصهم الحياتية وصورهم مع عائلاتهم وفي بيوتهم وعملهم وحدائقهم. تتنقل عائلاتهم من عاصمة إلى أخرى، ويقابلون رئيساً إثر رئيس. وفي كل خطابٍ يقرّعنا به مسؤول غربي، نجد التركيز الأكبر على روز وجاك الإسرائيليين، القتلى والرهائن، تفصيلاً وتضامناً مع آلامهم ومعاناتهم وأحلامهم، ثم تأتي إشارة عابرة تجميلية للضحايا الفلسطينيين وموتهم العددي غير المؤثّر. سياسة الغرب وإعلامه يحوّلان العالم والواقع والحياة إلى ما يشبه أفلام هوليوود المتوحّشة، حيث لا بأس من تدمير مدينة كاملة بسكانها من أجل إنقاذ البطل الأبيض الذي حدث، وإن وجد في تلك المدينة. إذا كان الموت العددي للمدينة وأهلها شرط نجاة (وبقاء) ذلك البطل المتفوّق جنساً ولوناً، كما برّر تشرتشل منح فلسطين في وعد بلفور لليهود على حساب الفلسطينيين، فليكُن.