خريف السيسي.. وربيع مؤذن ثورتنا
"الأصوات التى تبارك ذبح شباب الثورة واعتقالهم من قبل العسكر هي أصوات حقيرة.. والأصوات الشامتة، والتي تبارك وتحرض على اعتقال الشباب السلفي والإسلامي هى أصوات مبتذلة ورخيصة.. هناك ثوار حقيقيون بين هؤلاء الشباب، وينتقدون مواقف قياداتهم ومشايخهم.. فوبيا الإسلاميين مرضٌ يعمى البصيرة.. الحرية لجميع المعتقلين من كل الاتجاهات، من دون تمييز .. ثورتنا مستمرة".
ما سبق ليس كلام متأخون، أو متعاطف مع الإخوان والإسلاميين، أو واحد من المنتسبين لذلك الاختراع المضحك، المسمى"الإعلام الإخونجي"، وليس كلام أحد الذين تكرههم"اعتدال" وتطلق العسس وراء كتاباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي.
ما سبق كتبه العم كمال خليل، كما يناديه ثوار مصر، صاحب الواحد وسبعين عاماً، الذي اعتقلته قوات أمن عبد الفتاح السيسي فجر أمس، بعد اقتحام منزله وبعثرة محتوياته، عقاباً له على قيادة تظاهرات تيران وصنافير.
أطلقت عليه في مايو/ أيار 2012 "مؤذن الثورة المصرية"، بعد أن دوّن على صفحته الكلام المقتبس أعلاه، تعليقاً على التواطؤ بالصمت على المجزرة التي ارتكبها المجلس العسكري ضد المتظاهرين في ميدان العباسية، في العام 2012 في أثناء اعتصامهم الذي أجبر السلطة العسكرية على إعلان موعد إجراء الانتخابات الرئاسية.
كتبت عن هذا القديس اليساري الصادق الوفي النظيف أنه بلال هذه الثورة، مؤذنها ذو الصوت الشجي القادم من أعمق وأنقى مساحة في قارة الصدق والاستقامة الروحية والفكرية، بما يجعلك تقول بكل يقين: لن تهزم ثورة مؤذنها كمال خليل.
وما زلت عند رأيي بأن كمال خليل، ذلك المناضل المنتمي لأقصى اليسار، أكثر قربا من قيم ومبادئ التدين الحق، بلا نفاقٍ أو تملق أو ادعاء، والأكثر تقديسا للعدل والرحمة واحترام إنسانية البشر، على الرغم من زلة قدمه وغوصها، قليلاً، في وحل 30 يونيو/ حزيران 2013 تحت تأثير أعنف موجةٍ من الابتزاز، مارسها "بكوات السياسة المحفلطون"، ضد كل من يأبى الانصياع لرغبات الانتقام المجنونة التي التقطها العسكر، وبنوا عليها انقلابهم.
رأيت كمال خليل، أول مرة، في أواخر التسعينات من القرن الماضي، حين كان يأتي إلى مقر صحيفة "العرب" الناصرية، حين كنت أتولى إدارة تحريرها، مع الراحل شفيق أحمد علي، وثالثنا عبد الحليم قنديل، حيث كنا نتقاسم غرفة واحدة، وكان عبد الحليم قنديل يستقبل شخصيات من الإخوان والشيوعيين، في إطار مشروعٍ لمصالحةٍ تاريخية بين الناصريين والتيارات السياسية المختلفة، فكان يحضر كمال خليل وأحمد شرف، وأحيانا حسين عبد الرازق عن اليسار والشيوعيين، إلى جانب شخصيات من الإخوان.
فيما بعد، وفي أثناء أيام ثورة يناير، كان كمال خليل يشعل الميدان بهتافات بليغة، تصدر عن حنجرةٍ صادقة، فنتصافح سريعاً، إذ كان يمرق كالشهاب فيضيئ جنبات المكان، بحضوره المذهل وسط الجماهير، فتبقى محتشدة، مادام مؤذن ثورتها قائماً فيها.
يأتي اعتقال كمال خليل، هذه المرة، متزامناً مع صعود عريس تيران وصنافير إلى ولاية العهد. ولمّا كان السمسار قد قبض الثمن مبكراً، وصار مطلوباً أن يسلم البضاعة، فلابد من إزالة جميع العوائق التي تحول دون إتمام" البيعة"، فتتحول المحكمة الدستورية إلى كاسحة ألغام قضائية، ويتم اعتقال تلك الحنجرة التي صدحت في نقابة الصحافيين المصريين" السيسي لما يقول تحيا مصر يبقى باع حتة من مصر.. ولما يقول تحيا مصر مرتين يبقى باع جزيرتين". كان ذلك آخر هتاف لكمال خليل، قبل القبض عليه، من على سُلّٓم النقابة، ويطلق سراحه بعد دقائق، في الأسبوع الماضي، ليعاد اعتقاله من منزله أمس.
الرسالة باختصار: ليس مسموحاً لأحد بتذكّر "يناير" واستدعائها، في عز"يونيو"، وليس مسموحاً بالمعارضة في هذا المكان، وذلك تدشيناً للمرحلة الأخطر والأكثر جنوناً من خريف عبد الفتاح السيسي، الذي طال بشكلٍ لافت، يتجاوز في فظاعاته وانتهاكاته خريف أنور السادات الأخير، فحين تصل قبضة البطش إلى شخصياتٍ بحجم كمال خليل والسفير معصوم مرزوق، فهذا يعني أن النظام دخل مرحلة هستيرية من الاستبداد، تعكس ذعراً حقيقياً من استشراف النهاية.
والحاصل أن نظام السيسي، الغارق في ساديته، انتقل من مرحلة "فقء عيون المجتمع" التي شملت الصحافة والمنظمات الحقوقية، إلى مرحلة قطع الألسنة واستئصال الحناجر، ويتوقع معها أن تصبح مصر معسكر اعتقال كبيراً، يمتد بطولها وعرضها، فيما يشقّ الجنرال طريقه، المحفوف بالجنون على الجانبين، بعد أن أنجز صفقته مع السعودية، تماماً كما فعل أنور السادات في خريفه الأخير، بعد أن أنجز صفقته مع إسرائيل، وانتهى دوره على المسرح.. وبقي كمال خليل شاهداً على عارين: عار كامب ديفيد، وعار تيران وصنافير، وإن كان الواقع يقول إنهما عارٌ واحد ممتد.