خسرنا ترامب
كثرة الضغط تولد الانسحاق عربيًّا وليس الانفجار، وهذا عين ما برهنه دونالد ترامب، عندما عرف أن قوانين الفيزياء لا تنسحب على العرب، تحديدًا، فآثر أن يخصّص فترة ولايته ضاغطًا على حكامنا وشعوبنا، بلا أدنى "استراحة مهزوم". على الرغم من ذلك، سأفتقد ترامب، وكم كنت أودّ لو حظي هذا الرئيس بولاية إضافية؛ ليتمّ عاصفته التي سدّدها إلى مضاربنا، لكن ما باليد حيلة أمام حراك الديمقراطيات الحقيقية.
بعيدًا عن إشكاليات هذا الرجل، وتباين الآراء الحادّ حول شخصيته وأفعاله، في الوسع رؤيته من زوايا أخرى، وفي مقدمتها نجاحه في المزاوجة بين الرياضيات والسياسة، مبرهنًا أن قانون "أقصر مسافة بين نقطتين هي الخط المستقيم" يصلح نظريةً سياسية، خصوصًا حين يتعلق الأمر بالشأن العربي.
جاء تاجرًا في ثوب السياسي، وغادر سياسيًّا في ثوب التاجر. وفي كلا الحالين، كان منسجمًا مع دفاتر فواتيره التي حوّلها من دفاتر حساباتٍ إلى دفاتر سياسات، لم يتبدّل فيها غير أسماء المدينين فقط.
على هذا النحو، يمكن فهم مفاتيح هذا التاجر الرئيس؛ أو الرئيس التاجر، الذي كان ينطلق من نقاط الثوابت الأميركية الراسخة باتجاه النقاط المتحرّكة بخط مستقيم لا يعرف المنحنيات والمنعطفات. فمن نقطة الثابت الذي يرى في بعض دول الخليج محمياتٍ أميركية مدينة لهذه الحماية بأموالها، شنّ ترامب ضغطه المباغت، بعد أن لم يعد يحتمل أساليب المراوغة والالتفاف التي كان يمارسها رؤساء سابقون، من قبيل تقديم الإغراءات الاستثمارية، وتوسّل الفوائض المالية لإيداعها في البنوك الأميركية، بل توجه بخط مستقيم مباشر إلى نقاط الرمال المتحرّكة في السعودية وغيرها، مهدّدًا، على طريقة التجار عندما يفيض بهم الكيل، بسحب الحماية عنهم إن لم يؤدّوا "ديونهم" التي، وللحق، لم يكونوا على علم بها قبل إشهار التهديد، فقد كان في قناعة محمد بن سلمان ومحمد بن زايد، مثلاً، أنهما صاحبا "أفضال" على الولايات المتحدة، بفضل ملياراتهما المودعة في البنوك الأميركية. وغنيّ عن القول إن سياسة الخط المستقيم أنجزت مفعولها أزيد حتى مما كان يتوقعه ترامب نفسه، فقد هرع المدينون يرتعشون إلى واشنطن لسداد الدين، مع الخضوع لجلسات تقريع وشد آذانٍ ليتحاشوا تكرار ذنوبهم مرة أخرى.
ومن النقطة الثابتة الأخرى، التي تضع إسرائيل فوق الجميع، أطلق ترامب خطه المستقيم الثاني، مختصرًا الطريق الالتفافي الذي كان يسلكه أسلافه من الرؤساء، أحيانًا، في دعمهم المزمن إسرائيل، فقد كان هذا الدعم يتخذ شكل الوعود، عندما يتعلق الأمر بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، أو التردّد حيال الاعتراف بضم الجولان والضفة الغربية، غير أن ترامب الذي لم تعجبه تلك المراوحة، شن ضربته المباشرة، وبخطه المستقيم ذاته، ليقول: "ما دامت إسرائيل استراتيجية أميركية تعلو على كل الاستراتيجيات الأخرى، فسنعترف بيهوديتها، وبالقدس عاصمة لها، وبدولتها من البحر إلى النهر، ولا عودة للاجئين أو غيرهم، وليشرب الفلسطينيون والعرب والمسلمون بحار العالم كله". بل كان ثمّة مطلب إضافي أرجّح أن إسرائيل هي من طلبت من ترامب التراجع عنه، بعد أن أشفقت على العرب من هذا الإذلال، على ما يبدو، وقوام الطلب أن يقدّم العرب اعتذارًا عن حروبهم التي شنّوها ضد إسرائيل، أي أن المقصود اعتذارهم عن "نكبتهم" و"هزيمتهم".
بهذه الخطوط المستقيمة المباشرة، جاء ترامب، واضعًا حدّاً نهائيًّا للرمادي والغائم. ولهذا السبب، أتحسّر على رحيله؛ لأنه وحده أزال العصابات عن أعيننا، ووضعنا عراةً أمام أنفسنا وتحدّياتنا، وفضح مهانة حكامنا. كنت أتمنى أن يتابع ما بدأه، لا أن يحصل المهزوم على استراحة أخرى مخادعة، تعود فيها الوعود والرهانات إلى سابق عهدها؛ لتخدّر العقول مجددًا .. كنت أرجو أن يتضاعف الضغط أشد مما كان، على قاعدة إما انسحاق كامل أو انفجار كامل، وليكن بعدها الطوفان.