خطاب محاربة الاستعمار وإحياء هيمنة التسلّط

06 يونيو 2024
+ الخط -

من حيث لا ندري، عاد خطاب مُناهضة الاستعمار ليهيمن على تفاصيل المشهد السياسي والإعلامي والثقافي العربي. ومن حيث لا ندري، أيضاً، عادت الأيديولوجيات والشعارات القومية والاشتراكية العربية واليمينية والأصولية تُطلّ برأسها، وبشكل مُتجدّد، في الساحة العربية. هذا كلّه في جوّ يُعيد إلى الاعتبار تلك القراءات التي هيمنت مدّةً طويلةً على دولة الاستقلال العربية، وما سبقها من إرهاصات بدأت منذ عصر النهضة وصولاً إلى هزيمة العام 1967، وهو جوّ ساد، وتوسّع، وعمل على تغذية الأنظمة والقراءات التسلّطية والاستبدادية، التي عاثت في الأرض العربية فساداً، بحجّة المعركة المركزية المُؤجّلة مع الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين المُحتلّة، والتداعيات كافّة الناتجة عنها، والتي لم تُترجَم في أرض الواقع إلا إمعاناً في تخريب ما تبقّى من مؤسّسات، واستباحة ما تبقّى من البلاد، وقتل أو قمع أو ترهيب كلّ من حاول التفكير خارج صندوق الأنظمة وأنماطها الأيديولوجيّة السائدة، وحسابات قواها المصرفية.

في الأرضية ذاتها، أتت المواجهات الطلّابية الحميدة في الجامعات الأوروبية والأميركية، أخيراً، في محاولة رفض الإبادة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني. لكن ما لبث بعض قوامها أن نثر تفاصيل خطاب النضال في وجه المُستعمِر، وأحيا المصطلحات والمفاهيم القديمة كافّة. وعلى الرغم من أنّه خطاب غير مُعمَّمٍ، إلا أنّه عرف كيف يهيمن على المشهد، فبات هو المشهد. وفي الأرضية ذاتها، تقدَّم زمن الجريمة الإسرائيلية المُستمرّة في فلسطين المحتلّة وتأخّر عقلنا، وجوُّنا الفكري، وأفقنا السياسي، ولحظتنا التاريخية، إلى زمان غابر ترأّسه شعارُ "لا صوت يعلو فوق صوت البندقية"، وكلُّ تحدّراته العائلية. فلا معركة الأنظمة في وجه الاحتلال الإسرائيلي قائمةٌ، ولا صوتها ظاهرٌ، ولا شيء مُهيمِنٌ إلا النهب وتكريس الانهيار اللذان تتقن الطبقات الحاكمة، وأحزابها، ممارستهما، وجهاً آخرَ لتغطية أوجه الفسادية، التي توظّفها في صالح مشاريعها المصلحية وهيمنتها التسلّطية. في حين كانت تمارس هذا كلّه باسم المعركة، وباسم التمحور، وباسم فلسطين، وباسم محاربة الشيطان الأكبر، وقبله الاستعمار القديم.

بات الإنسان العربي اليوم ضحيّة، ليس الفاشية الإسرائيلية ومن خلفها فحسب، بل ضحية فاشية الأنظمة وقواها المُهيمنة

من حيث لا ندري، عاد الخطاب ومرادفاته إلى حقب أكل الدهر عليها وشرب. إذ إنّه في عزّ مرحلة هيمنة قوى هذا الخطاب في زمانها، لم تستطع الطبقات الحاكمة تلقّف إلا كيفية عرقلة وفرملة الواقع وآليات الخروج من المآزق. بل تراها كانت لا تنتج إلا المآزق، لأنّها الطريقة الوحيدة لإشغال وإنهاك الناس، ولأنّها الطريقة اليقينية الوحيدة لبقائها. بل لطالما مارست الطبقات الحاكمة في خطاباتها، وفي الأنظمة التي تديرها وتحقّق مصالحها الطبقية والسلطوية، كيفية القبض على كلّ إمكانات التطّور، والتشريع، والمحاسبة، وصولاً إلى الحكم، كما القبض على تداعيات حكم القانون والتحوّل إلى المؤسّسات، بوصفها الشروط الأساسية لأيّ انتظام سياسي حديث.

نعود، اليوم، إلى هيمنة خطاب مُحاربة الاستعمار، وإعادة هيمنة قواه معه، مع فارق أساس، هو أنّ تداعيات الأنظمة، وتلك القوى القابعة على صدور الشعوب العربية المقهورة والعاجزة، يكاد يكون الاستعمار نقطة في بحر كارثيتها. وها هي الحالة اللبنانية، على سبيل المثال، تُعلّمنا، وبشكل لا لبس فيه، كيف أنّ مقاربات الجهات الدولية عموماً، وصندوق النقد والبنك الدوليين خصوصاً، المُتّهمَين بنهب خيرات الشعوب، بمثابة جنّة إصلاحية أمام ما مارسته، وتمارسه، الطبقة الحاكمة من نهب مُنظّم، لدرجة أنّ طروحاتهما تكاد تكون يسارية مُتطرّفة أمام مقاربات الأحزاب السياسية الوطنية والتحرّرية التحريرية والمُقاوِمة، المهيمنة في لبنان.

تقدَّم زمن الجريمة الإسرائيلية وتأخّر أفقنا السياسي، ولحظتنا التاريخية، إلى زمان غابر ترأّسه شعارُ "لا صوت يعلو فوق صوت البندقية"

هكذا، تنشأ، اليوم، المعركة التحريرية المُفترضة، على أرضية ترى محاربة الاستعمار والتوسّعية وسياسة القتل الإسرائيلية، من بوابة وجهة نظر أخرى لم تمارس إلا الهيمنة والقتل والتوسّع والقمع والترهيب، فترانا وكأنّنا أسرى احتمالَين أحلاهما مُرّ، إذ بات الإنسان العربي ضحيّة، ليس الفاشية الإسرائيلية ومن خلفها فحسب، بل ضحية فاشية الأنظمة وقواها المُهيمنة، وفسادها المُستمرّ والمُستشري، وقمعها المُنتشر، كلّه عبر محوريتها المُمانِعة ومُغذّياتها باسم المعركة الكبرى. وهي تمارسها من خلال تقويض أبسط شروط الحرّية، والعيش الكريم، والأمان، وانتظام الحياة الاجتماعية، والديمقراطية عموماً، تجلّياتٍ وجواهر للنفس البشرية.

نعود اليوم، وللأسف، عبر مجموعات شبابية وتغييرية، كانت في لحظة من اللحظات تنشط بكثافة في خطّ مواجهة الأنظمة وقواها، وقد خاضت معارك ضارية ضدّها. معارك أدّت إلى اعتقال، وقتل، وتصفية آلاف الشبّان والشابّات في عدادها على أيدي الأنظمة وأجهزتها. لكنّ ذلك كلّه لم يمنعها أن تعود لتتموضع، اليوم، في حضن من قمعها واتهمها وقتلها في الأمس، وكأنّها محتْ كلّ ما جرى بجرّة قلم (!) نراها اليوم تعيد المشهد إلى ما قبل، وتعمل، عن دراية أو عن جهل، على إعادة إحياء الشرط الأساس لتغذية فسادية وهيمنية وقمعية ابن الجلدة نفسها، في مقاربة لا تكاد تخلو من الإمعان في شروط الإذلال والقتل والتصفية، انطلاقاً من مفاضلة غريبة عجيبة مميتة، تعمل بدورها، وبشكل حثيث، وبخطىً ثابتة، على المفاضلة بين فسادَين وقتلَين وتصفيتَين وإذلالَين؛ القبول والسكوت عن إذلال ابن البلد باسم الوطنية، ومحاربة ومواجهة ورفض إذلال الغريب باسم الاستعمار ومحاربته.