خطة الجنرالات أحمد أبو الغيط وآخرين
يسير المشروع الأميركي الإسرائيلي في الشرق الأوسط على ساقيْن، الأولى: إقصاء الشعب العربي كلّه عن معادلة صراع المنطقة بكلّ السبل، حتى إذا تطلّب الأمر تنفيذ عمليات إبادة وجرائم جماعية ضدّ الشعوب المشاغبة. الساق الأخرى للمشروع دمج النظام السياسي العربي مع إسرائيل تحت مظلّة أميركية تدير الشرق الأوسط سياسيّاً بالطريقة ذاتها التي تقوم بها القيادة المركزية الأميركية العسكرية، إذ تنفرد وحدها بسلطة تصنيف الأعداء والأصدقاء، وتوصيف الأشرار والأخيار.
بهذا المعيار المؤطّر لمشروع الشرق الأوسط الإسرائيلي، يأتي أحمد أبو الغيط اختياراً نموذجيّاً لمنصب الأمين لكيان مهترئ اسمه جامعة الدول العربية، وسلاحًا استراتيجيًا في توظيف جامعة العرب لخدمة المشروع الصهيوني، إذ تتوافر في الرجل كلّ المواصفات المطلوبة.
إقصاء الشعوب العربية المتمرّدة على الأنظمة المُنسجمة مع التصوّرات الإسرائيلية للشرق الأوسط الجديد يتطلّب أوّل ما يتطلّب تدمير ثقة هذه الشعوب بقدرتها على صناعةِ تغييرٍ سياسي، ومن ثم ردعها عن محاولةِ تكرار انتفاضاتها الهائلة في عام 2011 أو ما اشتهر بعام الربيع العربي، الذي تتفوّق كراهية أحمد أبو الغيط على مثيلتها عند جنرالات الكيان الصهيوني الذين أصابهم الفزع من سقوط كنزهم الاستراتيجي الأكبر في مصر، والانتقال إلى نظامٍ سياسي جديد، يقول بوضوح إنّ إسرائيل عدو محتل ولا يقف مشلولًا أمام توحشها ضدّ الشعب الفلسطيني، ولذلك لا يترك أحمد أبو الغيط مناسبة تمرّ من دون أن يلعن هذا الربيع العربي ويطعن فيه ويخترع له كلّ مرّة نقيصة، كانت آخرها قبل يومين في لقاءٍ تلفزيوني يتكرّر مرتين سنويًا على الأقل مع المذيع نفسه، حيث وصفه بأنّه مخطط أو مؤامرة خارجية داخلية على الوطن العربي.
في النصف الثاني من معيار الشرق الأوسط الإسرائيلي، يسير العداء لكلّ أشكال المقاومة والحطّ من شأنها بالتوازي مع احتقار الثورات والتخويف منها، لذا يتحدّث أبو الغيط في اليوم الذي تَحرق فيه إسرائيل الفلسطينيين، أطفالاً ونساءً ورجالاً، أحياءً داخل مخيّمات نزوحهم، ليتحدّث عن طوفان الأقصى بوصفه اعتداءً على الكيان الصهيوني، أو افتئاتًا عليه، ويردّد حزمة الأكاذيب التي صنعها نتنياهو ثم ثَبُتَ سقوطها تباعاً، عن انتهاكاتٍ مارستها المقاومة الفلسطينية ضدّ الصهاينة المحتلين الطيبين الأبرياء. يسأله المذيع عن مطالبة بعض الناس الجيوش العربية بالتدخل لردع الاعتداء على الشعب الفلسطيني، مردفًا: "بعض الدول تقول هو فلان يعمل عملة وأنا اللي أشيل تمنها في الآخر وآخد الجيش وأروح أحارب. عاوز النهارده تتورط الجيوش في حروب مش بتاعتها"، ليجيب على الفور: "هي وجهة نظر مقبولة لما النهارده تيجي تقول إن حماس يوم سبعة أكتوبر قامت بعمل عسكري أو عمل مقاومة أدى إلى تفجير الوضع بالشكل الفلاني وتتوقع إن هذا الجيش أو ذاك أو هذه الدولة أو تلك يتحرّكوا في سياق غير دبلوماسي؟ لا. عندما تفتئت إسرائيل على الشعب الفلسطيني هناك بعد آخر". ثم يضيف: "الحرب ليست سهلة ولا تحدث إلا إذا كان هناك تهديد وجودي لهذا البلد أو ذاك".
باختصار، وفق رؤية أبو الغيط، سقوط نحو 42 ألف شهيد وتدمير قطاع غزّة كلّه، والقصف بقنابل الألفي كيلوغرام لإجبار أكثر من مليوني فلسطيني على التهجير تطبيقًا لخطّة الجنرالات وإعادة احتلال القطاع واحتلال معبري صلاح الدين ورفح المصريين الفلسطينيين وتدمير العاصمة اللبنانية بيروت ومحاولة احتلال الجنوب وإعلان الصهاينة أنّ مشروعهم للشرق الأوسط يتضمّن توسيع حدود دولتهم المزعومة لتشمل مصر والأردن وسورية ولبنان والسعودية والعراق، كلّ ذلك ليس تهديدًا وجوديًا، وكلّ هذا الإجرام الصهيوني لا يرى معه أبو الغيط أنّ إسرائيل معتدية أو مفتئتة.
في عام 2020 صفّق أحمد أبو الغيط وهلّل لكامب ديفيد الثانية بين الكيان الصهيوني وكلّ من الإمارات والبحرين، ليشتدّ بعدها الإجرام الإسرائيلي ضدّ الشعب الفلسطيني في مدن وبلدات الضفة الغربية والقدس المحتلة، الأمر الذي حدا أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمّة التحرير الفلسطينية، الراحل صائب عريقات، إلى دعوته إلى الاستقالة من منصبه فوراً، معتبراً أنّه "غير مؤتمن على الجامعة العربية". وقال عريقات: "السيد أبو الغيط قبِل كأمين عام للجامعة العربية بتصفية القضية الوطنية الفلسطينية، واعتبار القدس الشرقية، بما فيها المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، تحت السيادة الإسرائيلية". وتساءل مستنكراً: "هل يعقل أن يصل مستوى الأمين العام للجامعة العربية لأن يصبح هو المسوّق للتطبيع المجاني بين إسرائيل والدول العربية (؟!)".
اعتبر عريقات أنّ أبو الغيط فتح الطريق بتصريحاته أمام أي دولة عربية تريد التطبيع المجاني مع إسرائيل، إذ حدث وقتذاك خلال اجتماع على مستوى وزراء الخارجية، أن أسقطت جامعة الدول العربية مشروع قرار قدّمته فلسطين يُدين تطبيع الإمارات مع إسرائيل.
لم يكن عريقات يدرك أنّه ربّما لهذا السبب وحده مرّ اختيار أحمد أبو الغيط لموقع الأمين العام للجامعة في عام 2016 بسهولة شديدة، في ظلّ تحمّس حزام الدول النافذة الكارهة للربيع العربي والمحاربة له والمنفقة بسخاء على مشاريع الانقضاض على الثورات العربية وإحراقها، إذ لم تتحفّظ على اختياره في ذلك الوقت سوى الدوحة، لكن تحفّظها لم يكن ليغيّر من التوافق عليه بين ذوي السطوة على الجامعة، ثم جاء التجديد له لفترةٍ ثانية في عام 2021 بالإجماع في فترةٍ بدا فيها النظام العربي كلّه مُجمعًا على الجهاد من أجل التطبيع مع صعود جو بايدن إلى رئاسة الولايات المتحدة، ليتأكد ما قلته عند اختياره من أنّه ليس هناك أنسب من أحمد أبو الغيط ليكون على رأس جامعة الدول العربية، في هذه المرحلة الكاشفة، التي يلتقي فيها مسار التطبيع مع مسار الانقلابات والثورات المضادة، ليصبّا معًا في مجرى واحد، لتصبح الجامعة في خدمةِ الاستبداد والتطبيع معًا.