خطوطٌ حمراءُ وبحرٌ أحمر
ليست التهديدات التي تمثلها المليشيات والمجموعات المسلحة المرتبطة بإيران في المنطقة العربية جديدة، فمنذ طرح ما عُرف بالاتفاق النووي كان هناك تساؤل عن إمكانية شمول هذه المليشيات في إطار التفاوض النهائي. وقد كانت إدارة الرئيس أوباما، التي كانت شديدة الحماس لإتمام الاتفاق، تعتبر أن طرح هذا الموضوع بندا رئيسا في المفاوضات قد يتسبّب بفشلها. في المقابل، كان المفاوضون الأميركيون يعتبرون أن الوصول إلى أي صيغة اتفاقٍ تعني، بالضرورة، تحسين السلوك الإيراني، بما يشمل لجم أذرعها الإقليمية.
حاول الأميركيون آنذاك إقناع دول الإقليم بهذا المنطق، الذي يسمح بحصول إيران على دعم مالي وسياسي كبير مقابل التعاون في المجال النووي. لم تكن هناك ضماناتٌ بشأن المستقبل أو تقييد فعلي لتصرّف إيران في الأموال المستردّة، لكن الشيء الوحيد الذي توفر هو قناعة المتحمّسين للاتفاق بأن إدماج طهران عبر هذه التفاهمات يعني، بالضرورة، أن تتوقّف عن فعل ما يهدّد الأمن والسلم الإقليميين، وأن تكون أكثر تعاوناً.
لم تصمد هذه النظرية، للأسف، أمام امتحان الواقع، حيث جابهتها عدة مشكلات، أهمها رفض إيران فتح موضوع المجموعات المسلحة ضمن عمليات التفاوض المختلفة، حيث ظلت تعتبر أن التفاوض منحصرٌ فقط بالمسألة النووية. المشكلة الثانية أن إيران لم تعترف بوقوفها عسكرياً ولوجستياً خلف الحوثيين في اليمن، أو خلف المجموعات الأخرى المنتشرة في سورية والعراق. لعل الاستثناء الأهم هنا حزب الله اللبناني، الذي لم ير زعيمُه، حسن نصرالله، بأساً في الإعلان عن تلقّيهم دعماً ورعاية وتمويلاً مباشراً من إيران. جعل هذا من السهل التنصّل من أي مسؤولية تجاه ما يحدُث بفعل هذه المليشيات بذريعة أنها مجموعاتٌ مستقلة.
لم تسقط فقط النظرية المؤسّسة للاتفاق، ولكن الاتفاق نفسه سقط بعد وصول الرئيس دونالد ترامب إلى السلطة، حيث بادر إلى الانسحاب منه، ما كان يعني تقويضه وفشل حصول إيران على ما كانت تنتظره من أموال. استبشر أعداء إيران في داخل الولايات المتحدة وخارجها بقرار الانسحاب في البداية، قبل أن ينتبهوا إلى أن نقض الاتفاق يعني أن تكون إيران في حلٍّ من أي تعهد، بما يشمل من جهة موضوع المساعي النووية، ومن جهة أخرى، مواصلة دعم الأذرع التي كانت تعدّها مهمة لتثبيت صورتها قوة إقليمية.
مثلما يصعُب القبول بالفوضى يصعب أيضاً الاستسلام للحلّ العسكري، الذي قد يقود إلى فوضى أكبر
كانت تلك هي الفترة التي تمدّد فيها الحوثيون عسكرياً بشكل أكبر، وبدأوا تنفيذ ضربات صاروخية داخل المملكة العربية السعودية وقرب مناطق حساسة، كمنشأة أرامكو النفطية. السعودية، التي هي حليف مهم للولايات المتحدة، تركت وحيدة من دون تعهّد واضح بحمايتها، سواء تجاه عدوان إيراني محتمل، أو حتى تجاه عدوان الحوثيين.
لم يكن الاعتداء على الحلفاء الخليجيين يمثل خطّاً أحمر للإدارة الأميركية يستوجب التدخّل. في الواقع، أي اعتداء على أي حليف، مهما كان، لا يستوجب وحده تدخّلاً أميركياً جادّاً، ما لم تتعرّض المصالح الأميركية المباشرة للخطر. يمكن أن يخلص إلى هذه القاعدة كل من يقرأ التاريخ الدبلوماسي والعسكري الأميركي، فالتدخّل المباشر كان دائماً يحدُث، إما لتعرّض هذه المصلحة للخطر، أو للإحساس بأن عوائد هذا التدخّل مجزية.
بعد فشل "مهمّة العراق" وما تلاه، أخيرا، من انسحاب مخزٍ من أفغانستان، أصبحت الحسابات الأميركية أكثر تعقيداً، فعلى الرغم من التكلفة المادية والبشرية الكبيرة والدعاية التي رافقت هاتين العمليتين بالذات، إلا أن المحصّلة، سواء على صعيد المصلحة الأمنية الأميركية أو حسابات الربح والفوائد كانت صفراً.
تتدخّل الولايات المتحدة، بتنسيقٍ مع وكيلها الصهيوني، من أجل تنفيذ هجماتٍ موضعيةٍ في سورية والعراق ولبنان، حينما تشعر باقتراب هذه الأذرع بشكل ملموس من خطوطها الحمراء، التي منها أمن الكيان. يدخل في هذا تنفيذ اغتيالات لشخصيات نافذة واستهداف مناطق عسكرية، كما تدخُل فيه محاولات تخريب المنظومة النووية الإيرانية.
بات الحوثيون يمتلكون أسلحة متطوّرة منها صواريخ باليستية، وقد بدأوا بتهديد الملاحة في البحر الأحمر
حالياً، هناك تصعيد غير مسبوق ضد الحوثيين، الذين باتوا يمتلكون أسلحة متطوّرة من ضمنها صواريخ باليستية، وقد بدأوا بتهديد الملاحة في البحر الأحمر. وفق بيانات الحوثيين، يأتي هذا في إطار الرد على العدوان الإسرائيلي على غزّة ويستهدف به السفن الإسرائيلية أو تلك التي تعبر في اتجاه الكيان. ويصعب الجزم بما ستؤول إليه الأمور. تنبع هذه الصعوبة من عدم معرفتنا ما إذا كان هذا التهديد الملاحي يمثّل خطّاً أحمر أميركياً أم لا، كما أننا لا نعلم ما إذا كانت هناك مفاوضات تجري حالياً سرّاً من أجل إقناع الحوثيين بالتوقّف. سيقدّم هذا الاتفاق، إن حدث، دليلاً جديداً على معنى الخطوط الحمراء عند الأميركيين، حيث سيشمل ضمنياً غضّ الطرف عن أي تحرّك للحوثيين شريطة الابتعاد عن الممرّ المائي، الذي يؤثر تهديده على حركة النقل التجاري العالمية وعلى أسعار النفط.
تشمل الاستراتيجية الأميركية منع التهديدات في هذه المنطقة الحيوية، وهو ما يتماشى مع رؤية موسّعة حول ضمان أمن الملاحة في مناطق أخرى، كالبحر الأسود وبحر الصين الجنوبي، لكن الوضع هنا معقّد، فمثلما يصعب القبول بالفوضى يصعب أيضاً الاستسلام للحل العسكري، الذي قد يقود إلى فوضى أكبر.
في السودان، على الضفّة الثانية من البحر الأحمر، يبرُز مثالٌ آخر على طريقة تقييم الأميركيين الأولويات. في حين تكبر الحرب هناك وتتزايد التقارير عن الانتهاكات المرتبطة بقوات محمد دقلو (حميدتي)، بما فيها ما أعدّته منظّمات ووسائل إعلام أميركية، تكتفي واشنطن بالشجب والدعوة إلى التفاوض. ما ينساه الذين يجتهدون في توثيق الجرائم من أجل إدانة مرتكبيها أن الأميركيين لن يتدخّلوا لمجرّد التأثر.
من هنا، يبدو التعويل على واشنطن ومحاولة كسب دعمها في هذه المسألة أشبه بمجهود ضائع، طالما أنه ليست هناك مصلحة مباشرة لها تجعلها تتدخّل أو تمارس ضغوطاً ذات أثر.