خطيئة فصل الدولة عن الشعب
منذ اعتلاء عبد الفتاح السيسي قمة السلطة في مصر، وهو يكرّر، بلا ملل، أن ثورة 25 يناير، أو "أحداث 2011" كما يحلو له تسميتها، كانت ضد الدولة المصرية، وكادت تهدمها. وقبل أيام، ذكّر السيسي المصريين بما اعتبرها محاولاتٍ سابقة لتحويل الدولة المصرية إلى "خصم" للمواطن. وفي كل كلماته، سواء المكتوبة أو المرتجلة، يحفل حديث الرجل عن الدولة المصرية بمغالطات وافتراءات كثيرة. يتعلق بعضها باتهامات مختلقة بحق المواطن المصري، وينبع بعضها الآخر من خلط الأدوار والواجبات بين المواطن والسلطة الحاكمة.
الخطأ الجوهري الذي يقع فيه السيسي، شأن كل الحكام الاستبداديين من كاسترو والقذافي إلى بشار وترامب، هو الالتباس بين تعريفات الدولة والمواطن والسلطة ومفاهيم ثلاثتهم وأدوارهم. وهو خلط تاريخي مُتجذّر عند تلك العقليات الاستبدادية، بين الدولة، بوصفها كيانا تعاقديا له قواعد وشروط وحقوق تقابلها التزامات، والكيانات البدائية العشائرية كالقبيلة أو العائلة.
ترتيباً على التباس الجوهر والمضمون، تتداخل التعريفات، وتسقط الحدود الفاصلة بين نطاقات كل منها، فالدولة في مفهومها الحقيقي، المستقر في علم السياسة تحديداً وغيره من العلوم الاجتماعية عموماً، في أبسط تعاريفها، كيانٌ يتشكّل من امتزاج ثلاثة عناصر أساسية: "أرض" يقيم عليها "شعب" يملك قراره ويحكم نفسه ويفرض "سلطته" في الحكم وفي السيادة على تلك الأرض. ولكلٍّ من هذه العناصر الثلاثة شروط ومحدّدات يمنح توفرها لذلك الكيان (الدولة) خصائصه، ويكسبه مركزاً قانونياً مستقرّاً وحجية موضوعية. مثلاً، يجب أن يكون "الشعب" مستقرّاً فوق الأرض، وليس جماعات رحالة من بلد إلى آخر. وليس شرطاً أن يكون الشعب أحادي الهوية الطائفية أو العرقية أو الدينية أو غيرها. أما الأرض فيجب أن تكون خاضعةً لسيطرة هذا الشعب، أي يمتلك السيادة عليها. وأن تكون للأرض حدود واضحة معترف بها. والركن الثالث هو السلطة، أي حكم الشعب نفسَه بنفسه وامتلاكه السيادة على أرضه.
فالسلطة هي الوكيل عن الشعب في إدارة حياته وتحقيق مصالحه وحماية حقوقه ومكتسباته والتعامل باسمه مع الشعوب/ الدول الأخرى. ويجب أن تتمتع السلطة بالشرعية التي هي رضا الشعب عنها، إنْ لم يكن اختياره لها وللقائمين عليها من الأساس.
وإذا شئنا المقارنة أو ترتيب الأركان الثلاثة، يأتي "الشعب" في مقدمتها، إذ هو الأساس والجوهر الذي تنبني عليه الدولة، فالأرض وحدها ليست سوى مساحة من تراب، والسلطة لا وجود لها أصلاً بدون الشعب. وبالتالي، يمكن اعتبار كلٍّ منهما ركناً مُتمماً، بينما الشعب هو الركن المُنشئ للدولة.
ومن زاوية أخرى، لذلك الكيان الافتراضي المسمّى "الدولة" مفهوم وظيفي، هو خدمة "الشعب"، صاحب الأرض وأصل الدولة والقائم على شؤونه بنفسه. أولاً، من خلال العمل والإنتاج. وثانياً، بواسطة وكيله "السلطة" لتنظيم العمل وإدارة الشؤون العامة والخاصة، حسبما توافق الرأي الجمعي أي غالبية الشعب.
الشعب، إذن، ليس خادماً للسلطة ولا يعمل عندها، بل هي التي تعمل عنده ووظائفها كلها لحسابه، هذا هو الأصل والمُفترض. بالتالي، ليس الشعب طرفاً في مواجهة الدولة. وبالأصح، الدولة ليست طرفاً مكافئاً للشعب. وبالطبع، لا تعلو عليه بأي شكل، فالدولة ليست سوى إطار يجسّد وجود الشعب وهويته وقيمته وتقدّمه، فيما هو أساس الدولة وركنها الأساس وعمادها الرئيس. وفي عبارة موجزة، يمكن أن يوجد شعب بلا دولة، لكن يستحيل وجود دولة بلا شعب.
لذا، يقترن دائما تكرار استخدام لفظة "الدولة" في الخطاب الرسمي السلطوي لمصر، ومثيلتها من الدول، إما بالهروب من المسؤوليات والواجبات المنوطة بالسلطة الحاكمة أمام الشعب، أو بمحاولة التنصّل من المسؤولية عن المشكلات والأخطاء المرتكبة بحق الشعب، وتصديرها إلى الشعب نفسه، غير أن لاختزال الدولة في سلطة الحكم دوافع وأبعاد متعدّدة جديرة بمزيد من التأمل.