خيانة غزّة... عندما يعيد التاريخ إنتاج أنساقه
في عام 2002، وخلال أحداث مذبحة ولاية كجرات الهندية، والتي قَتَلَ فيها متطرّفون هندوس مئات المسلمين الهنود، أطفالاً ونساء ورجالاً، بطرق وأساليب وحشية، ووقعت فيها أعمال اغتصاب واسعة بحقّ النساء، قرأت تقريراً لمراسل صحيفة واشنطن بوست الأميركية أصابني بالذهول. كتب أنه خلال سفره وفريقه إلى إحدى مدن الولاية أو قراها مرّوا بعصابات هندوسية في طريقها إلى المكان نفسه، فأسرعوا قبلهم وحذّروا السكّان المحليين المسلمين. كانت المفاجأة أن أحداً منهم لم يجرؤ على الهرب بحياته، فقد أقعدهم الخوف وشلَّ حركتهم. وعند وصول العصابات الهندوسية طفق أفرادها في قتل أهل المنطقة حرقاً وضرباً وطعناً وبعيارات نارية. أكثر ما هزّني في القصة رواية المراسل عن فتاة مسلمة صغيرة تناوب المجرمون على اغتصابها أمام والدها الذي لم يفعل غير البكاء والتوسل، ثمَّ انتهى الأمر بحرقها حية أمامه، ثمَّ قتله هو نفسه. ذكّرتني تلك الحادثة، حينها، بقصة درسناها تلاميذ صغاراً في المدرسة تقول إنه وفي أعقاب اجتياح المغول بغداد، عاصمة الخلافة العباسية حينئذ، عام 1258، كان الجندي المغولي يأمر عشرات الأسرى المسلمين أن ينتظروه حيث هم حتى يأتي بحبل ليشدّ وثاقهم فيه، ثم ربما يقتلهم، ومع ذلك لم يكن أحد منهم يجرؤ على التحرّك من مكانه. وكنتُ حتى قراءتي تقرير "واشنطن بوست" أعتقد أن ذلك من مبالغات التاريخ والمؤرّخين عن حقبة سوداء عاشتها أمة العرب والمسلمين في تاريخها. ولكن قناعتي تلك تغيّرت، بعض الشيء، منذ ذلك الحين.
أيضاً، في تاريخنا ما يفيد بوقوع الخيانات وليس فقط الارتكاس بفعل الخوف والذعر. بعد سقوط بغداد، انطلق هولاكو يدمّر ويحتل المدن والبلدات الأخرى التي كانت تابعة للخلافة العباسية، إلا أنه اصطدم بمدينة ميافارقين، وهي تقع الآن في شرق تركيا في منطقة ديار بكر، والتي رفض أميرُها الكامل محمد الأيوبي التسليم له ولجيشه المغولي، وقاوم وأهل مدينته ببسالة وشجاعة. إلا أنه وبعد عامين من الحصار ونفاد المؤمن سقطت ميافارقين من دون أن يأتيها المدد من الإمارات الإسلامية المحلية القريبة منها، فكان مصيرها، ومصيرهم بعد ذلك الذبح والاستعباد. قريبٌ من ذلك وقع قبل عقدين من ذلك الزمان، حينها، في قرطبة، والتي كانت يوماً عاصمة الأمويين في الأندلس، وأحد أعظم شواهد الحضارة الإسلامية فيها. في عام 1236 حاصر بضعة آلاف من القشتاليين بقيادة فرناندو الثالث المدينة، ولكن صمود أهلها واستبسالهم في الدفاع عنها أخّرا سقوطها عدة أشهر. كانت غرناطة تتبع للأمير محمد بن يوسف بن هود ملك إشبيلية، ومع أنه تحرّك بأكثر من ثلاثين ألف جندي ليفكّ الحصار عنها، إلا أنه، ولسببٍ ما، عسكر بعيداً عن قرطبة وأحجم عن فكّ الحصار عنها ومنازلة القشتاليين، مع أن أعدادهم كانت قليلة، فكان أن سقطت المدينة ولم تقم للمسلمين فيها منذئذ قائمة. المفارقة أن بن هود كان مشغولاً بصراعه مع أمير غرناطة، محمّد بن يوسف بن الأحمر، ولم يتورّع كلٌّ منهما عن التحالف مع القشتاليين ضد أخيه، حتى انتهى الأمر أن سقطت إشبيلية بيد فرناندو نفسه عام 1248، ثمّ تبعتها غرناطة عام 1492.
أي عدو أجنبي لا يحترم من يتواطأون معه ضد شعوبهم وأهليهم، بل إنه يحتقرهم
تتداعى تلك المشاهد إلى خاطري، وأنا كغيري أتابع عارنا العربي والإسلامي في قطاع غزّة وجريمة الإبادة التي يتعرّض لها أهله منذ أربعة شهور. صحيحٌ أن التاريخ لا يعيد أحداثه ووقائعه، ولكنه قد يعيد إنتاج أنساقه وتجاربه. ومع أن سياق غزّة لا يجتر تجربة سقوط بغداد على أيدي المغول، ولا مذبحة كجرات على أيدي الهندوس، ففي غزّة مقاومة باسلة لم تستسلم أمام عنف العدوان الإسرائيلي الرهيب، وشعب صابر سيسطر التاريخ صموده بأحرفٍ من ذهب، إلا أن جلَّ محيطها العربي والإسلامي خذلها أيما خذلان، بل إن بعضه متآمر عليها. كثير من المحيط العربي والإسلامي مصاب برهاب بغداد المغول وكجرات الهندوس. إنه يجترّ خيانات ابن هود وابن الأحمر في قرطبة، وخيانات الإمارات الإسلامية لميافارقين. اختلف الزمان واختلفت المسمّيات وتغيرت السياقات، لكن الأفعال الفاضحة المخزية بقيت واحدة.
أليس من العار أن يتضوّر أهل قطاع غزّة جوعاً وعطشاً، حتى وصل بهم الحال إلى أن يأكلوا حشائش الأرض وأعلاف الحيوانات في حين تعجز الدول العربية والإسلامية عن إيصال الطعام والشراب والدواء والوقود لهم عبر الحدود العربية البرّية مع القطاع؟ أليس من العار أن تصرف بعض الدول العربية مئات الملايين من الدولارات على لاعبي كرة قدم في حين يعاقب بالسجن كل من يتجرأ على أن يجمع دولاراً واحداً لأهل قطاع غزّة المحاصرين والذين يتعرّضون للإبادة؟ أليس من العار أن يكون بعض الفلسطينيين والعرب متواطئين مع إسرائيل وأميركا في جريمة الإبادة عبر التنسيق معهم لمرحلة "ما بعد حماس"، وكأن هذه المرحلة ستأتي من دون سفك دماء عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين الأبرياء العزّل وتدمير ما تبقى من قطاع غزّة!
أليس من العار أن يتضوّر أهل قطاع غزّة جوعاً وعطشاً، حتى وصل بهم الحال أن يأكلوا حشائش الأرض وأعلاف الحيوانات؟
إن كان لنا في التاريخ من عبرة، فإن خيانة قرطبة ترتب عليها سقوط إشبيلية وغرناطة. وخيانة ميافارقين لحق بها سقوط حمص وحلب ودمشق. وخيانة غزّة سيكون لها ما بعدها من كوارث ومصائب تحلُّ بالمحيط العربي والإسلامي، فأي عدو أجنبي لا يحترم من يتواطأون معه ضد شعوبهم وأهليهم، بل إنه يحتقرهم. كل ما في الأمر أن مصيرهم سيكون كمن خُذِلوا، ولكنه مؤجّل. هذا لا يعني أن مصير غزّة قد حسم لصالح إسرائيل وحلفها المشترك معها في الجريمة، فالمتغيّرات كثيرة، والمعطيات متعدّدة الأوجه والساحات، والتفاعلات ما زالت نشطة. الثابت الوحيد الآن أن التاريخ لن يكون ودوداً مع من تورّطوا في خيانة غزّة وشعبها، وكذلك كل من تورّطوا في خيانة جراحات أخرى في جسد الأمة. وواضحٌ أن التاريخ سيجود علينا بإضافات جديدة في قائمة العار إلى جانب ابن العلقمي وابن هود وابن الأحمر، وغيرهم كثير، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. كما أنه لن يعدم نماذج مضيئة كقرطبة وميافارقين ودرعا والفلّوجة وغزّة.