"خيوط المعازيب"
المسلسل الوحيد الذي تابعتهُ في شهر رمضان المبارك المنقضي "خيوط المعازيب"، المسلسل السعودي المتميّز، الذي أرى، ومثلي كثيرون، أنّه يشكّل نقلة في الدراما السعودية والخليجية عامّة، حيث نجح في الخروج من الدائرة النمطية لكثير من أعمال الدراما الخليجية، إن لم يكن لغالبيتها التي تدور أحداثها وحواراتها في الفلل الأنيقة والسيارات الفارهة، نائية بنفسها عمّا عبرته مجتمعاتُنا، وما يعتمل في ثناياها من تحوّلات، وتجليّاتها على الصُعد المختلفة.
خرج "خيوط المعازيب" إلى الحياة الرحبة، ليعرض جوانب من هذه التحوّلات، وما يرافقها من تناقضات، ووفّق في اختيار المكان الذي تدور فيه الأحداث، والفترة التي جرت فيها. المكان منطقة الأحساء، وهي من المناطق المهمّة في السعودية ببيئتها التي جمعت بين الزراعة والحرف اليدوية، وفي مقدّمتها خياطة العباءات الرجالية (البشوت)، التي استوحي منها عنوان المسلسل. أما الزمان فكان ستينيات القرن العشرين، ليرصد أوجه البدايات على غير صعيد، اقتصادي واجتماعي وثقافي.
ومحقّون من قالوا إن المكان كان هو البطل الرئيسي في المسلسل، ومنهم الناقد السعودي محمد العبّاس، من دون أي تقليل من أدوار ممثيله، من الأجيال المختلفة، وفي مقدّمتهم الفنانان إبراهيم الحسّاوي الذي كان له دور كبير في تبنّي فكرة المسلسل، واعتبره "منذ بداية تنفيذه حلم العمر"، وأدّى فيه دور "جاسم"، وعبد المحسن النمر الذي برع في أداء دور "أبو عيسى"، ومعهما عدّة ممثلين شباب، من الجنسين، الذين تعرّفنا على بعضهم للمرّة الأولى. ويلفت النظر الأداء المميّز للفنّانة لبنى بوخمسين، المتحدّرة هي الأخرى من الأحساء التي لعبت دور أم أحمد.
حرص القائمون على المسلسل على تقديمه باللهجة المحكية لأهل الأحساء، وهو ما نجحوا فيه، وساعد في ذلك انتماء أبرز الممثلين فيه إلى تلك المنطقة. ليس هذا وحده ما نجح المسلسل فيه، الأهمّ نجاحه في تقديم تفاصيل البيئة الأحسائية، في الفترة التي تدور فيها أحداثه، من دون أن يغفل عن تفاعلاتها مع محيطها، داخل السعودية أو في المحيط العربي الأشمل، بما في ذلك النقلة التي تمّت عبر الانتقال من الصناعة اليدوية للبشوت إلى تصنيعها في معمل استقدمت أجهزته من بلاد الشام، لا لتُنهي العُسف الذي كان "المعازيب" وفي مقدّمتهم "أبو عيسى" يمارسونه ضد العمّال، وإنما لينقله إلى شكلٍ جديد أملته هذه النقلة، بما أحاط بها من صراعاتٍ بين "أهل الكار".
قال مؤلف المسلسل حسن العبدي إن "خيوط المعازيب" يُمثّل قصة حياته ومجتمعه وأرضه. متمنياً أن يكون هناك موسم ثانٍ للعمل، "فالمعازيب، كما يقول، كُثرٌ، وفي الأحساء عشرات المعازيب (معزّب للحدادة، ومعزّب للصفارة، ومعزّب خبابيز، ومعزّب نجاجير، وغيرهم)، لأن الأحساء تعتمد على الحِرف، ولكل "معزّب" حكايات مع الصبية الذين يعملون عنده، في صيغة هي أقرب إلى السُّخرة، على النحو الذي شوهد في المسلسل.
مثل أي عمل ناجح، لا يخلو "خيوط المعازيب" من نقاط ضعف، وفي تقديرنا المتواضع، أضاع المسلسل فرصة ثمينة كانت متاحة لجعل تحوّلات شخصية "جاسم" التي أداها الفنان القدير إبراهيم الحساوي أكثر اقناعاً وتماسكاً، بأن يجعل من التحاقه بالعمل في الشركة، ويقصد بها، على الأرجح، شركة أرامكو، هو الشرارة التي قدحت في ذهنه الوعي الثقافي الجديد الذي صار يُبشّر به في المحيط الذي أتى منه، عبر حثّ الشباب على قراءة الكتب، وتنظيم أنشطة ثقافية بمحتوى جديد غير مألوف يومها. وما كان الاستغناء عن الجزء المتّصل باعتزاله في الكهف، وانفصاله عن محيطِه المجتمعي، سيضرّ بالعمل على الإطلاق، لو استبدل بمسار مختلف يكشف للمشاهد كيف تشكّل لدى "جاسم" وعيه الجديد. ويعرف الدارسون للتاريخ الثقافي للمنطقة عامة الأثر الكبير الذي أحدثته بيئة العمل في شركات النفط، في تقوية النسيج المجتمعي، كونها جمعت عمّالاً وموظفين من مناطق متباعدة منعزلة عن بعضها، وكونها أيضاً بيئةً لتشكّل وعي طبقي وثقافي جديد، بسبب علاقات الإنتاج الجديدة، والاختلاط بجالياتٍ عربيةٍ متأثرة بالأفكار التقدميّة التي كانت في حال صعود على المستوى العربي.
وفي بعض الأوجه، على الأقل، بدا لنا أن ما نريد تسميته "إغلاق الأقواس" في الحلقة الأخيرة من المسلسل بنهاياتٍ "سعيدة" لمسارات التناقض والصراع في أحداث المسلسل وبين شخصيّاته، مفتعلاً، وربما كان الأفضل إبقاء تلك الأقواس مفتوحة، تمهيداً لعملٍ متمّم.