داحس الجيش وغبراء الشرطة

16 ابريل 2015
+ الخط -

المعركة التي دارت، مساء أول من أمس، بين قبيلة الجيش المصري وقبيلة الشرطة هي التجسيد الكامل لغياب مفهوم الدولة في مصر. ولو قارنت بين هذه الحرب وحرب البسوس أو داحس والغبراء قبل عشرات القرون، ستكتشف أننا نعيش الآن في العصر الجاهلي بامتياز. وبصرف النظر عمن بدأ الاعتداء، ضابط الجيش المخالف، أم ضابط الكمين المتغطرس، فإن تطور المشكلة وطريقة إدارتها يكشفان، على نحو فادح وفاجع، أن القائمين على القانون في مصر هم أول من يدوسون القوانين بأحذيتهم، ويتصرفون بمنطق زعماء القبائل وشيوخ الحارة، ورؤوس الطوائف، ومن ثم جرت المعركة على مذهب "أبناء الكار" الذين ينصرون أقرانهم، ظالمين ومظلومين، منكفئين على بدائيتهم، ومبتعدين، تمام الابتعاد، عن قيم التحضر التي يجسدها تطبيق القانون بشكل إنساني.
إنها، وبكل أسف، لحظة ارتداد إلى قيم البداوة وقانون الطبيعة، وليس قيم الحضارة وقانون الحياة الإنسانية الذي اخترعه البشر، لكي ينتقلوا من حالة القطيع السائب إلى حالة المجتمع البشري المنتظم العقلاني الذي يرتقي بالحياة من وضعية الصراع الهمجي إلى وضعية إدارة الخلاف الطبيعي بين مكونات المجتمع، بشكل يضمن البقاء على قيد حياة محترمة.
 لكن الموقف على مأساويته لم يخل من مفارقات مضحكة، وإن صح أن طرفي الصراع مارسا عملية سطو على الحقوق الأدبية والفكرية للثوار، بأن استخدموا شعارات المتظاهرين الشهيرة في الهتاف ضد بعضهم، فهذا يعني اعترافاً صريحاً وإقراراً لا شعورياً بمنطقية ووجاهة الشعارات الثورية التي أذاقت هذين الطرفين صنوف التعذيب والتنكيل والكراهية.. فكما نقل على مواقع التواصل الاجتماعي، كان ضباط الشرطة يواجهون ضباط الجيش بهتاف "يسقط حكم العسكر"، فيما يرد الطرف الآخر "الداخلية بلطجية".. وهو ما يجسد مقولة "الشعب هو المعلم" بالفعل، ويكشف عن حالة نزوع من طرفين، قاما بدور الجلاد فترات طويلة للعب دور الضحايا.
والكارثة الحقيقية في الأمر أن كل هذه الاشتباكات القبلية البدائية أصبحت تلقي بظلالها على قضايا كنا نظن أنها محورية وراسخة، كموضوع للإجماع الوطني، مثل قضية العداء للكيان الصهيوني والوقوف بجانب الحق الفلسطيني، لينكشف الستار عن أصوات لا تمانع أبداً في إظهار نوع النذالة الإنسانية مع عذابات الفلسطينيين في غزة، لمجرد أن خصومهم السياسيين في الداخل يظهرون تعاطفاً أكبر، ويتخذون مواقف أوضح في دعم أشقائنا الفلسطينيين.
يصلح هذا كله علامات على سقوط حضاري عنيف، وأعراض لداء عضال، بدأ يتسلل إلى الشخصية الوطنية المصرية التي ارتفعت إلى أقصى مراتب الإنسانية والتحضر، مع بزوغ فجر 25 يناير، ويراد لها أن تهبط إلى الحضيض، مرة أخرى.
هل خدعتك، لأنني لم ألفت انتباهك إلى أن ما قرأته، في السطور أعلاه، سبق نشره بتاريخ 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، في ذروة التحضير للانقضاض على سلطة الرئيس، محمد مرسي، في أثناء محاصرته في قصر الاتحادية؟
ما جرى بين جيش السيسي وشرطته في شبين الكوم بالمنوفية، أول من أمس، نسخة مطابقة لما جرى بينهما في التجمع الخامس بالقاهرة الجديدة قبل ثلاثين شهراً، عندما وقع الاشتباك وتطور إلى محاصرة كتيبة مشاة من الجيش قسم الشرطة، وبدا أن مصر مقبلة على حرب قبلية حامية الوطيس، وكان سؤالي وقتها: أين رئيس الجمهورية المنتخب، ولماذا يبدو دائماً وكأنه في مقاعد المتفرجين؟
مشهد اشتباك القاهرة جرى استثماره في ذلك الوقت، لترويج فكرة أن مصر دولة فاشلة، محكومة بقبضة مرتعشة لرئيسٍ لا يسيطر على مقاليد الحكم.
الآن، يبدو وكأن تروس ماكينة الانقلاب بدأت تأكل بعضها، حيث يسمع صوت اصطكاكها واضحاً، من حادث أبراج كهرباء مدينة الإنتاج الإعلامي إلى معركة شبين كوم وانفجار ملعب كفر الشيخ، بالتزامن مع عمليات التطهير والاستئصال التي تدور داخل جناحي الدولة العسكرية، الشرطة والجيش، فلا تركزوا كثيراً في حواديت "العقاب الثوري"، في ظل نظام تفرغ لكتابة السيناريوهات الركيكة.


 

وائل قنديل (العربي الجديد)
وائل قنديل
كاتب صحافي مصري من أسرة "العربي الجديد" عروبي الهوية يؤمن بأنّ فلسطين قضية القضايا وأنّ الربيع العربي كان ولا يزال وسيبقى أروع ما أنجزته شعوب الأمة