داعش في مسقط
طوال 40 عاماً من إقامتها في عُمان، لم تسمَع المعلمة سلمى أحمد (42 عاماً) عن حدثٍ مثل الهجوم على مسجد الإمام علي في منطقة الوادي الكبير في العاصمة مسقط، والذي أدّى إلى اشتباك الشرطة مع المعتدين نحو عشر ساعات ليلة الأربعاء الماضي، فسقط أكثر من 30 مُصاباً، وقضى شرطيٌّ عُمانيٌّ وهنديٌّ وأربعة باكستانيين. ومثل المعلّمة، لا نتذكّر، نحن أهل الإعلام، أن نبأً مشابهاً للواقعة المذكورة فاجأنا، وطيّرته وكالات الأنباء إلينا من السلطنة التي تشحّ منها الأخبار في العموم. ولذلك من طبيعيّ الطبيعيّ أن يجري الإلحاح على صفة الحادث النادر من نوعه في هذا البلد أنه غيرُ مسبوق. وعندما يطلع تنظيم الدولة الإسلامية، المكنّى داعش، ببيانٍ، يُنبئنا فيه بأن "ثلاثة انغماسيين منه" هم من ارتكبوا الجريمة التي استهدفَت "تجمّعاً للشيعة"، بحسب وصف البيان نفسه، فإن هذا الذي جرى يُنذر بما هو مقلقٌ جداً، لأنه في سلطنة عُمان (خمسة ملايين نسمة 40% منهم وافدون) تحديداً، البلد الخليجي الذي يصلّي فيه الإباضية والسُّنة في المساجد نفسها، ولم تُصادَف فيه أي أنباءٍ عن أيّ مستوىً من التوتّرات أو الأزمات أو السجالات الطائفية. كما أن الحادثة تأخُذنا إلى مراجعة ما يروج عن إضعافٍ جرى للتنظيم الإرهابي المذكور، في سنوات ما بعد حرب التحالف الدولي على "داعش" في سورية والعراق، فقد دلّل في موقعة الوادي الكبير في عُمان على أن في وُسعه أن يُباغِت الجميع في غير باكستان وأفغانستان (و...)، وإنما في مطارح ليست في التوقّع ولا في الحسبان.
ليست منسيةً الجريمة الشاذّة التي استهدفت مسجداً للشيعة في الكويت، في يوليو/ تموز 2015، وراح فيها 26 ضحية. وليس يحسُن أن تُغطّى الشمسُ بغربال، فلا يُقال إن ثمّة حالةً من التوتّرات الكلامية، والسياسية، تخفُت وتعلو، في بعض دول الخليج، بين المكوّنين، السُّني والشيعي. ومع الدعوات البديهيّة بأن تسلم وتأمن كل دول الخليج من أي مظاهر عنفٍ وتشاحن، إلا أننا لا نستطيع إغماض العيون عن فشل السلطة والنخبة السياسية العريضة في البحرين (مثلا) عن حل إشكالٍ قائمٍ في هذا الخصوص. ومع التسليم بأن ثمّة أمناً اجتماعياً قوياً قائماً في دول الخليج، تغيب فيها أي تمايزات طائفية بين أبنائها، على الصعد الوظيفية والعمل في الحقل العام وفي كل مؤسّسات الدولة، الأمنية والمدنية والعسكرية، إلا أن "أفكاراً" تتسرّب إلى أفهام شبانٍ، وبينهم من ذوي التعليم العالي والمتقدّم، يصحّ فيها النعت الرسميّ الذائع لهم بالضلال، لتأخذَهم إلى تأويل نصوصٍ معيّنة باتجاه تكفيرٍ للشيعة، وباتجاه مضادٍ يؤلّب على السُّنة، بوصف أولئك في خانتهم الطائفيّة، وبحشر هؤلاء في خانتهم الطائفيّة الأخرى. ولا يحتاجُ واحدنا إلى استرسالٍ في المخاطر الشديدة التي يُحدثها شيوع هذه الأفكار أو تسرّبها في المجتمعات، سيّما في دول الخليج التي تنعم بالوداعة والاستقرار واليُسر المادي والرفاه، وباطمئنان الناس على أمنهم وعلى عيشهم.
ربما تُجيز لنا معرفتُنا أن "الانغماسيين" العُمانيين الذين ارتكبوا الهجوم المستنكَر، على المسجد الآمن، ثلاثة إخوة، الاجتهاد بأن تنظيم الدولة الإسلامية، العصيّ على أن يكون تنظيماً بالمعنى الكلاسيكي لمفهوم التنظيم، لم يمكنه أن يجنّد أحداً من خارج أسرة واحدة ليشاركوا في اقتراف الجريمة المشهودة. ولكنّ "اجتهاداً" كهذا، مرتجلاً ومتعجّلاً، لن ينفي أن وجوه الخطورة في الواقعة تتعدّى هذا الاعتبار الذي يقع في دائرة الاحتمال والترجيح، فالأفكار التي تسلّح بها الإخوة ليهاجِموا "تجمّعاً للشيعة في أثناء ممارسة طقوسهم السنوية عند معبدٍ لهم"، بحسب التعبيرات المقيتة لأصحاب البيان المُفزع، في الوسع أن تتوطّن في أفهام غير هؤلاء الثلاثة. والمؤكّد أن أجهزة السلطنة، الأمنية، وكذا مؤسّسات الوعظ والإرشاد، مدعوّتان إلى التعاون والتنسيق، وهما أدرى بالذي يمكن فعله لتطويق النُّذر التي تُنبئ بها واقعة مسجد الإمام علي، ذلك أنها بالغة الخطورة تلك الشرارة في بلدٍ يشهد أعلى مراتب التسامح، وأرفع مظاهر التعايش بين التنويعات المذهبية والمكوّنات الطائفية، فثمة الهندوس الوافدون، وكذلك المسيحيون، والشيعة والإباضية، وغيرهم، مع السُّنة. وثمّة محطّات غير قليلة عرفت فيها السلطنة "العفو عند المقدرة"، غير أن الرصاص الذي لعلع في الوادي الكبير أقلق كثيرين في المنطقة، يوجب معالجاتٍ، من نوع آخر... وأهل السلطنة أدرى بشعابها.