دراما الفساد السوري على جبهتي النظام والمعارضة
تعمّقت حاجة السوريين، بعد ثورة 2011، إلى صور ضدّية توضّح التباين بين الأنظمة المتعدّدة، المتصارعة فيما بينها، ليس لأجل السوريين، والتي صارت تتحكّم بأشلاء سورية الممزّقة بتسمياتها العديدة، من سورية النظام إلى سورية المعارضة (التركية) إلى سورية "الديمقراطية" تحت الحماية الأميركية، فعلى اختلاف تسمياتها، فإنّ العامل السلطوي هو المشترك بينها، مع غياب المقابل الديمقراطي المفترض لوجود نظام الأسد الأمني، ما غيّب ملامح سورية المنشودة في ثورة دفع ثمنها نحو مليون شهيد ومئات آلاف المعتقلين وملايين المشرّدين واللاجئين.
لا وجود لأضداد بين السلطات المتنوعة على أجزاء البلاد، والتي هي مجرّد شبيهات مكرّرة، مشوّهة، عن نظام الأسد، يحكمها، وينظمّها، السلاح أمنياً، والفساد اقتصادياً، وغياب الشخصيات الوطنية اجتماعياً، ويوحّدها جميعها أنها منزوعة السيادة من الأطراف الخارجية، التي تحكمها وتتفاوض باسمها، وتحرّكها كأذرع عميلة، أو تابعة لها، أو محدودة الصلاحيات.
طوال الفترة الماضية، اعتمد النظام السوري تنصيب شخصياتٍ وضيعة، بمعنى أنه ليس لها أي مكانة، أو نكهة، أو أهلية، في سعيه للحطّ من مكانة السوريين، وزعزعة صورتهم الاجتماعية المتماسكة، ورغبة منه في إخضاعهم، وإطاحة قيم ثورتهم المتعلقة بالحرية والكرامة والمواطنة، من مثل أبو علي خضر (هرب أخيراً مع ثلاثة مليارات دولار، مطلع شهر إبريل/ نيسان الحالي). في المقابل، لم تنتبه "المعارضة الرسمية" المتصدّرة إلى أهمية دورها في تصدير صورة مواجهة لتلك الصورة القاتمة عن المجتمع السوري، وطبقته السياسية والاقتصادية والإعلامية التي أراد النظام أن يصدّرها إلى العالم، لترسيخ مكانته ودوره في ضبط المجتمع السوري.
لا يستطيع النظام اليوم تقديم نماذج سورية يتعذّر على معارضيه نقدها، بل الغريب أن يجمع حتى الموالين له على إدانتها، والتقليل من شأنها
في السياق ذاته، لم تنتبه تلك المعارضة، أيضاً، إلى أهمية الحفاظ على شخصيات سورية وازنة ومجرّبة، سياسياً وأخلاقياً وإدارياً، وقادرة على صنع فارق في أذهان السوريين، والرأي العام العربي والعالمي، ليكونوا بمثابة صورة مضادة للصورة التي يصدّرها بشار الأسد، وحلقته الضيقة، وذلك باعتمادها على شخصيات من النوع ذاته، وإنتاجها بيئة طاردة للشخصيات النزيهة، التي كانت قد خبرت السياسة وتحدّت نظام الأسد، مثال ذلك قدرتهم على التضييق على شخصية مثل ميشيل كيلو، على سبيل المثال (تصادف هذه الأيام الذكرى الأولى لرحيله)، إلى الحدّ الذي جعله يقذف استقالته من الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة في وجوههم، وثمة أمثلة كثيرة على ذلك.
لا يستطيع النظام اليوم تقديم نماذج سورية يتعذّر على معارضيه نقدها، بل الغريب أن يجمع حتى الموالين له على إدانتها، والتقليل من شأنها، في كل المجالات، السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية، وحتى الإعلامية، حيث تنتشر، من وقت إلى آخر، فضائح طبقته الحاكمة، من كل نوع، من رامي مخلوف إلى خضر طاهر بن علي، ما يؤكّد أنه حاول، خلال العقد الأخير، تصدير صورة مشوّهة أكثر عمقاً وانتشاراً من ذي قبل، كتسليم قطاعات ثقافية وفنية لأمثال محمد قبنض، الرجل الأمي الذي يمثل، إضافة إلى سلطته المالية، سلطة تشريعية، ليكون وأمثاله أرباب عمل للنخبة السورية، وهو ما أنتج فعلياً مجتمعاً مشوّهاً تصوّره مسلسلات رمضان الحالية بأبشع الصور التي تهين السوريين، وتمزّق بقايا حنينهم إلى وطن كان ملاذهم الآمن اجتماعياً.
لم ينتبه الأسد إلى أنّ بناء حلقته الضيقة جاء على خلاف سياسة والده، من تنويع انتماءاتها الجغرافية، إلى تنويع تبعياتها القومية والدينية، والانتباه إلى مكانتها الاجتماعية مع تفكيك مرحلي لمكانات الزعامات التقليدية لزعزعة النظام الاجتماعي، في عملية طويلة الأمد ومدروسة زمنياً، ضمن سياسة توزيع الغنائم، مع احتكار السلطة، بينما اعتمد نظام الأسد الابن على احتكار الغنائم وتوزيع المخاطر، ومنها صناعة طبقة فاسدة تحكم السوريين لتحلّ مكان طبقة حاكمة فاسدة، فحيث لم يعد مطلوباً للمهمة إلا الفساد والانحطاط والابتذال.
خلال عقدين اتبع النظام الترغيب والترهيب، وسياسة "فرّق تسد"، بإشعال الفتن بين أطراف المعارضة، وشخصياتها ذات المصداقية
لقد تميزت المعارضة السورية لنظام الأسد، وأقصد عموم الشعب المعارض للنظام، بوجود شخصياتٍ مهمةٍ ووازنة، أخلاقياً وسياسياً وثقافياً، رغم تعثرها في إنشاء كياناتٍ سياسيةٍ فاعلة لها، تعبّر من خلالها عن إرادة السوريين، وإدارة كفاحهم من أجل التغيير السياسي، سواء قبل انطلاقة ثورة 2011 أو بعدها، بيد أن النظام انتهج طرقاً عديدة لمحاصرتها وعزلها. ومثلاً، خلال عقدين اتبع الترغيب والترهيب، وسياسة "فرّق تسد"، بإشعال الفتن بين أطراف المعارضة، وشخصياتها ذات المصداقية، كما عمل على رعاية بعض الكيانات، وتصديرها كمعارضة، في حين انتهج طرق التلاعب لزرع الشقاق والخصومة بين معارضين، إن عبر اعتقالات مدروسة، أو عبر ترويج تقارير مشبوهة، أو مغرضة، لإحلال عدم الثقة بينهم سابقاً، وضرب أواصر التواصل، وهو ما بقي سارياً إلى ما بعد خروج معظم الشخصيات المعارضة، وتمترسهم في تجمعاتٍ مغلقةٍ لم تستطع التشكيلات المختلطة بينهم توحيد رؤيتهم أو تمتين إجماعهم حول مشروع خريطة طريق إلى الحرية المنشودة لسورية... هي العتمة التي يواجهها سوريون، كجزء من الشعب السوري على ضفة النظام، كما يواجهها الجزء الآخر، على ضفة كيانات المعارضة، وعلى وجه الخصوص "الائتلاف" بشقيه الحاليين، الإصلاحي والانقلابي، وأدواتهم الأمنية والمسلحة وأشباهها.
غاب دور النظام السوري في إدارة البلاد وتنظيمها وحماية مواطنيها وتأمين الحد الأدنى لمعيشتهم ومحاربة الفاسدين، بل تفوق النظام في اختراع طبقة فاسدين، نقلهم من عالم الجهل والعدم إلى عالم الثراء والشهرة، بل وضع مفاتيح رزق شرائح عموم السوريين والمثقفين والفنانين والصحافيين بين أيديهم، فلم تعد كرامة المواطن وحدها المهدورة، بل تعدّت ذلك إلى هدر كرامة وطن قدّمه السفلة كأنه غرزة مخدّرات أو جحر أفاعٍ، فغابت سورية وحضرت سلطتها كما هي بهذه القتامة المتوحشة. والمشكلة أن الوضع على ضفة المعارضة المتصدّرة ليس أفضل حالاً، بل ينهل النظام بعض شرعيته من معارضةٍ كهذه، مرتهنة ومتفسّخة.