درس سائق الأجرة
رفض، قبل أيام، سائق سيارة أجرة في القاهرة أن يدخل بي إلى أحد النوادي المشهورة في وسط البلد، وأصرّ على أن يُنزلني عند بوابة النادي الخارجية، لأكمل إلى الداخل ماشيةً على قدمي في درجة حرارة تتجاوز الأربعين، ورطوبة تزيد عن خمسين بالمائة. بداية ظننْته يعتقد أنه من غير المسموح لسيارات الأجرة العامة الدخول، لكنه قال لي إنه يعرف القوانين لكنه هو لا يريد الدخول؛ وعندما أصرّيت لمعرفة السبب، قال لي: "لا أريد أن أتلف أعصابي برؤية نموذج للحياة لا يمكن لمن هم مثلي بأي حال أن يعيشوه؛ هنا طبقة من المجتمع ممن لا يعرفون ما يدور خارج دائرتهم، ويتمتّعون بسعادة لا أعرفها لا أنا ولا أطفالي، وأنا أخذت عهدا على نفسي أن لا أراهم إلا مضطرّا كي أكمل يومي من دون غضب". كان السائق الأربعيني جادّا جدّا بما يقوله وحاسما، بحيث لم يترك لي مجالا لمناقشته. أعطيته حسابه ونزلت، بعدما شعرت بأنه قد شتمني، لمجرّد أنني قادمة إلى هذا المكان الذي سوف يتسبّب له بالغضب.
ورغم موقف السائق المبالغ به، لكنه في الحقيقة لم يكن مخطئا كثيرا، إذ إنه فعلا توجد بين أسوار ذلك المكان طبقة مجتمعية لها نمط حياة يختلف عن السائد العام، ولها قيم مختلفة عن القيم المجتمعية السائدة. لا أعرف حقا إن كانت هذه الطبقة تشعُر بما يحدث حولها أو لا، ذلك أنني أذهب إلى هذا المكان لأتمرّن أو أمشي في مكان هادئ، بعيدا عن ضجيج الشوارع حفاظا على صحّة قلبي، وأعود إلى بيتي من دون أن أقيم حوارات وعلاقات مع الآخرين. لكنني أستطيع التكهّن أن هذه الطبقة من المجتمع تبدو سعيدة في حياتها، عكس حال الغالبية العظمى من المجتمع العربي حاليا الذي يعاني سكّانه، في كل مكان فيه، من العوز والحاجة، ومن أثر تردّي الأوضاع الاقتصادية، وما يرافق ذلك من إحساسٍ بالعجز والظلم، ومرّات كثيرة يتحول إلى حقد طبقي سوف ينفجر يوما.
يمتلئ التاريخ البشري بالتنظيرات عن المال والسعادة، وتمتلئ كتب الأدب والفلسفة أيضا بالحديث عن هذين المفهومين؛ وغالبا ما يذهب التنظير إلى أن المال لا يصنع السعادة، وأن الباحثين عن المال بقصد الحصول على السعادة سوف يقضون وقتهم بجمع المال من دون أن يتمكّنوا من تذوّق طعم السعادة يوما. ولعل في هذا الكلام بعضا من الحقيقة إن كان جامع المال بخيلا أو مقتّرا ولا يعرف كيف يستمتع بحياته؛ أو لعل هذا الكلام، أيضا، يصلح لزمن قديم، حيث مغريات الإنفاق كانت محدودة. لكن في عصرنا الحالي، نحن نعيش في زمنٍ مقترن تماما بالاستهلاك. لم يعد المال هدفا للانتماء لطبقة النخبة، بل بات هو الحاجة الأساسية والأولى ليبقى أحدُنا حيا، بالمعنى الحرفي للكلمة، لا بالمعنى المجازي فقط، خصوصا في دول العالم الثالث التي يزداد الفساد فيها بازدياد تردّي اقتصادها، ما يجعل من الرشوة هي السبيل الوحيد لنيل أبسط الحقوق، وما يجعل من المال هو السلطة والقوّة التي تيسّر الحياة اليومية.
ليس هناك ما هو أسهل من التنظير حول قيمة السعادة والمال إن كنت لا تعاني من الفاقة والعوز والحاجة. يمكنك هنا أن تكتب مطولات عن أن المال "وسخ الحياة"، وأن السعادة تنبع من القناعة والرضا بما لدينا، وسوف يصفّق لك الكثيرون معجبين بقدرتك على الاستغناء؛ لكن هذا ليس سوى ذرّ للرماد في العيون، ذلك أنك لو كنت محتاجا وكنت تعاني من فقدان أبسط حقوقك لمجرّد أنك فقير فسوف تكون سعادتك الوحيدة هي امتلاكك النقود: المفتاح السحري للحياة الكريمة؛ وسوف تكون متأكّدا من أن الكرامة والعوز لا يمكن أن يلتقيا، الكرامة هي في قدرتك على نيل حقوقك، ولو في حدّها الأدنى. خارج هذا فكرامتك مهانة، وسعادتك غائبة، وحياتك معقّدة، ومشاعرك مركّبة، وغضبك المكبوت يتراكم حتى تكاد تنفجر أو تموت من القهر واليأس.
هل يمكنني لوم سائق الأجرة على موقفه؟ في الحقيقة، منحني فرصة التفكير بما أنا فيه وعليه، وبما هو محقّق لي مما يحمي كرامتي من الهدر؛ بما يجعلني ممتنّةً لكل ما ومن يجعلني أخطو في كهولتي بخوفٍ أقلّ وبفهم لحقيقة الواقع بعيدا عن التنظير، مستعيدة الكثير مما قيل في السعادة، ومتيقّنة من أن "أعداء سعادتي هما الفقر والألم".