دروس معركة الديمقراطية و"الترامبية"
إذن، انتهى عهد ترامب، ولكن "الترامبية" لم تنته، فالتيار السياسي الذي أنشأه، والأفكار والتحدّيات التي طرحها على الديمقراطية العالمية لن تنتهي في وقت قريب.
أول ما أعادت التجربة الترامبية التأكيد عليه أن الديمقراطية ليست حلا سحريا، فهي نظام يعمل بكفاءة فقط حال عدم وجود الانقسامات الحادّة. تقوم الديمقراطية على افتراض أن الناخب سيختار الأفضل حسب ارتباط مصالحه الشخصية بتيار سياسي معين في فترة معينة، وحسب تقييمه السياسي أداء المرشّح، بينما في حالة الانقسامات الحادّة يصبح التصويت بناء على هوية أزلية مستحيلة التغير.
كما أن الديمقراطية قائمة على افتراض أن الخاسر لن يشعر بتهديد وجودي، بينما تنهار إذا أصبحت الخيارات صفرية، وقد حدث مثل ذلك في عهد الولايات المتحدة نفسها إبّان انقسام ولايات الشمال والجنوب بشأن تحرير العبيد، وكلف ذلك البلاد حربا أهلية، قُتل فيها نحو 600 ألف شخص.
وإذا كانت المؤسسات الأميركية الراسخة قد اهتزّت تحت تأثير الانقسام المتعمّق مجتمعيا، فما بالنا بديمقراطياتٍ ناشئة، سرعان ما ستنهار إذا تحوّلت السياسة إلى انقسام جهوي، أو طائفي أو ديني أو عرقي، وليس خلافا في برامج سياسية.
لا بديل ببلاد البناء الديمقراطي عن الوصول إلى طرحٍ يجنّب انقسامات الهوية، ويصنع تحالفا بين كل الأطياف، حتى لو كان تحالفا هشّا على الطريقة التونسية، أو يؤجّل ويجمد تلك الانقسامات على الأقل.
جانب ثان هو التأكيد من جديد أن الديمقراطية ليست صناديق نزيهة فقط، ثم يمكن للفائز أن يفعل ما شاء بلا كوابح. منذ اللحظة الأولى، انطلق الحراك المعارض لترامب في صورة مسيرات حاشدة، وحملات إعلامية، ورفض مسؤولين منتخبين محليين قراراته، وكذلك نقض المحاكم الفيدرالية بعضها. منظومة ضخمة من المؤسسات والتراث التشريعي المستقر لا يمكن كسرها.
حقا أمكن لترامب إجراء تعديلات غير مسبوقة في السياسات الأميركية، بموجب صلاحياته التنفيذية الفيدرالية، كسحب الولايات المتحدة من اتفاقية المناخ، ومن منظمة الصحة العالمية. كما تضرّرت المؤسسات الفيدرالية بتعييناته على أساس الولاء الشخصي، إلا أن يده ظلت مغلولة تماماً عن الاستبداد، بمعنى الأذى الجسدي المباشر لخصومه.
لم يملك قط إمكانية اعتقال سياسي معارض، أو إغلاق صحيفة أو قناة، أو إقالة مسؤول محلي منتخب، أو التدخل بميزانيات الولايات والمدن والأحياء. بل إنه فشل في دفع حزبه نفسه لتعديل "المادة 230، الخاصة بعدم مسؤولية مواقع التواصل الاجتماعي عما يُنشر عليها، فضلا عن أنه لم يجرؤ على التفكير بتعديل الدستور.
درس ثالث، هو في الخطورة البالغة للخطابات الشعبوية في عالم اليوم. وإذا كانت الشعبوية قد أدّت إلى سقوط الديمقراطية في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية في الثلاثينيات، فإن عصرنا يشهد تجربةً غير مسبوقة لإمكانية الصعود الصاروخي لحقائق زائفة بالكامل، يستخدم مروّجوها مواقع التواصل الاجتماعي، وشهدنا محاولة اقتحام الكابيتول من حشودٍ تؤمن فعلا أن الانتخابات قد سُرقت وزوّرت.
حين أقرّ الدستور الأميركي حق حمل السلاح للمواطنين، كان أحد الأسباب حماية الشعب ضد أي احتمال لتغول دكتاتور عليهم، إلا أنه لم يدر ببال من كتبوا المادة أنه سيأتي يوم تخرج حشود شعبية تدعم الدكتاتور وتلوح بالقتال لحماية بقائه.
على صعيد مختلف، تعلمنا التجربة الأميركية، أخيرا، أنه لا بديل عن النضال المنظم على الأرض. لم تكن حركة بيرني ساندرز أفكارا نظرية يدعو لها فقط، بل تمّت ترجمتها حراكا تنظيميا واسعا، نقاباتٍ وجمعيات، ومرشحين للمدن والولايات. والعالم كله اليوم يعرف فضل نضال ستيسي إبرامز في جورجيا، والتي قادت جيشا من آلاف المتطوّعين، طرقوا أبواب المنازل حتى في أضيق الأزقة، ليسجلوا نحو 800 ألف ناخب أسود جديد ذهبت جل أصواتهم إلى بايدن، ثم إلى مرشحي الديمقراطيين في مجلس الشيوخ.
وبالطبع، إذا كان التغيير في بلاد الديمقراطية الراسخة يتطلب عملا جماعيا منظما، فهو يتطلب ذلك من باب أولى في بلاد بناء الديمقراطية المتعثرة.
.. رحل ترامب، لكن دروس القتال ضد "الترامبية"، في أميركا وخارجها، بقيت، وما أكثر الترامبيين العرب.