دروس من قضية جوليان أسانج
إخراجاً لها من ظلام التعتيم الإعلامي الأميركي والبريطاني، وعلى عكس المتوقع، ووقفاً لحالة الجمود التي صبغت قضية الصحافي الأسترالي جوليان أسانج، مؤسس موقع ويكيليكس الذي نشر وثائق أميركية سرّية، أصدرت محكمة بريطانية، قبل أيام، أمراً يوقف ترحيله إلى الولايات المتحدة، بسبب "تأثير ذلك على صحته النفسية ومخافة إقدامه على الانتحار"، كما أفادت القاضية. وبينما تبرّر الولايات المتحدة طلبها ترحيله إلى أراضيها لسجنه بسبب إفشائه أسراراً تتعلق بحربها على أفغانستان والعراق، قال مسؤولو الموقع إنهم لم يفعلوا شيئاً سوى كشف انتهاكات الأميركيين حقوق الإنسان في هذين البلدين. لذلك تقدِّم قضيته، ومن ثم الحكم فيها، درساً ذا حدّين، الأول تلقنه واشنطن لمعارضي حروبها، والآخر يلقنه المعارضون لواشنطن وحلفائها.
قدّمت وثائق ويكيليكس أدلةً على حدوث جرائم اغتصاب وتعذيب ممنهج للمعتقلين
في سنة 2010، وعلى عكس ما أرادت الولايات المتحدة، انتشرت التقارير والوثائق التي نشرتها "ويكيليكس" وأظهرت حجم الانتهاكات التي ارتكبتها القوات الأميركية خلال حربها على أفغانستان والعراق خلال غزوهما واحتلالهما، واستهدافها المدنيين في عمليات حربية كثيرة، وخارج العمليات العسكرية، فقد أكدت مئات آلاف الوثائق التي نشرها الموقع جرائم الحرب التي ارتكبتها القوات الأميركية بحق المدنيين والمعتقلين في سجونها في العراق وأفغانستان. وقدمت أدلةً على حدوث جرائم اغتصاب وتعذيب ممنهج للمعتقلين، علاوة على تسجيلها مئات حوادث القتل في صفوف المدنيين العزَّل في الشوارع أو الآمنين في منازلهم. ولا يزال مقطع الفيديو الذي نشره الموقع، ويُظهر استهداف حوامة أميركية مدنيين وصحافيين من "رويترز" في سياراتهم، سنة 2007، ثم ملاحقتهم بالرصاص بعد خروجهم منها، ما أدى إلى قتل 18 مدنياً، في ذاكرة أبناء الشعب العراقي وغيره من الشعوب، كونه يُفنِّد الأجندة التي ساقتها الولايات المتحدة وحلفاؤها خلال حربهم على هاتين الدولتين، ويُظهر كذب أجهزة الدعاية التابعة لهم التي تتبجّح بإنجازات "حربهم على الإرهاب".
القضاء البريطاني يعدُّ عمل أسانج تجسّساً، ولا يعدّه ركناً أساسياً من أركان الصحافة الاستقصائية التي مهمتها البحث والكشف
عادة ما تقف الدول الغربية موقف المدافع عن إعلامها عند نشره أسرار بعض الدول، أو الفضائح التي تطاول سياسييها، من فساد وغيره، أو حتى عند تسريب الصفقات الفاسدة، أو تسريب أساليب التعذيب التي تتبعها بعض الأنظمة بحق أبناء شعبها، وتصف الأمر بأنه دفاعٌ عن حرية التعبير. لكن هذا الأمر لم ينطبق على موقع ويكيليكس وصحافييه، ومنهم أسانج، الذين يُصنَّف عملهم ضمن بند الصحافة الاستقصائية، حين نشروا الوثائق والتقارير التي تتعلق بالحرب على العراق وأفغانستان، وكذلك تلك التي تتحدّث عن التعذيب في سجن غوانتانمو الأميركي، الذي يعد ساحة للتعذيب الممنهج لمئات المعتقلين المحرومين من محاكماتٍ عادلة. هذا المعتقل الذي نشرت "ويكيليكس" مئات الوثائق والتقارير السرية التي تُظهر ضلوع الحكومة الأميركية في انتهاك اتفاقية جنيف لمعاملة المدنيين، واتفاقية مناهضة التعذيب، في تعاملها مع نزلائه.
الآن، ومع القرار الذي أصدره القضاء البريطاني القاضي بوقف ترحيل أسانج إلى الولايات المتحدة، حيث ينتظره حكم بالسجن قد يصل إلى 175 سنة بتهمة إفشاء أسرار وتسريبات أدّت إلى إلحاق ضرر بأناسٍ وشكلت تهديداً لحياة آخرين، بحسب القانون الأميركي، إلا أن القرار لم يقضِ بالإفراج عن أسانج. فبعد يومين من قرار وقف الترحيل، أصدر القضاء البريطاني، في 6 يناير/ كانون الثاني الجاري، حكماً يرفض بموجبه طلب الإفراج عن الرجل. وإن كان لهذا الأمر من معنى، فهو أن القضاء البريطاني يعدُّ عمل أسانج تجسّساً، ولا يعدّه ركناً أساسياً من أركان الصحافة الاستقصائية التي مهمتها البحث والكشف، ما يعني أن حرية التعبير التي يكفلها القانون البريطاني باتت موضع تهديد في حال أرادت الصحافة الولوج عميقاً في قضايا تدلّ على تورّط الحكومات في انتهاكاتٍ تمسّ مواطنيها أو مواطني الدول الأخرى، وهذا درسٌ تريد هذه الحكومات تلقينه لهذه الصحافة ورجالاتها ومعارضي حروبها.
احتجزت الشرطة البريطانية أسانج في سجن بيلمارش، سيئ السمعة، في لندن، الذي يعد النسخة البريطانية من معتقل غوانتانمو
على الرغم من أن القضاء البريطاني لم يوجِّه تهمةً محدّدةً لأسانج، بعد اعتقاله من داخل مبنى سفارة الأكوادور، سنة 2019، بعد سبع سنواتٍ من لجوئه إليها ومكوثه فيها، إلا أن الشرطة البريطانية احتجزته في سجن بيلمارش، سيئ السمعة، في لندن، والذي يتفشّى فيه فيروس كورونا هذه الأيام، ويعد النسخة البريطانية من معتقل غوانتانمو. وإذ قالت القاضية البريطانية، فانيسا باريتسر، بعد إصدارها الحكم الذي يقضي برفض ترحيله إلى الولايات المتحدة إن مردّ ذلك إمكانية إقدامه على الانتحار في سجون أميركا في ظروف السجن الانفرادي، المتوقع إيداعه فيه، فإنها استندت إلى ما قالت عن معاناته من الاكتئاب واليأس والخوف من المستقبل. وهي بذلك تدين، ليس القضاء الأميركي الذي لن يحميه من ظروف السجن السيئة إذا ما رُحِّل فحسب، بل تدين أيضاً القضاء البريطاني الذي لم يوفر له مكان احتجاز لائق، بل أودعه واحداً من أسوأ السجون في العالم الذي سبب له تلك المشكلات النفسية.
كان القرار ثمرة جهد زملاء أسانج وأصدقائه ومحاميه ومدافعين كثيرين عن حرية التعبير الذين تجمهروا خارج قاعة المحاكمة يومها. وهم يعدّون القرار انتصاراً لهم، وقد تحقق بفضل سعيهم الدائم لإعادة قضيته إلى دائرة الضوء. لقد أوحوا إلى القضاء البريطاني، والقاضية باريتسر خصوصاً، بأن ترحيله سيكون بمثابة حكم بالإعدام تتحمّل هي تبعاته الأخلاقية. ويبقى أن هذا الإنجاز - الانتصار، ومقارنة بحجم الضغط المطبَّق على مؤسسات الحكم والقضاء البريطاني لترحيله، سيكون درساً للصحافيين والحقوقيين للاستمرار في ضغطهم من أجل تبرئة أسانج، من جهة، ودافعاً للاستمرار بمحاولات كشف الجرائم والانتهاكات التي تضغط الحكومات، وتفعل ما لا يخطر في بال، من أجل إبقائها في الظل، من جهة أخرى.