دستور "الدولة العميقة"
عادة يكون للدول الاستعمارية، أو المولودة منها وتشبهها، من الولايات المتحدة إلى الصين في أقصى الشرق الآسيوي، وما بينهما، دستوران. أحدهما معروفٌ، ونجد نصوصه في أي لحظة على الإنترنت، والثاني غير مكتوب، ونجده في تقارير لمنظمات حقوق الإنسان، وهو "دستور" مكفول بعرفٍ، يكرّسه عنصران مركزيان: الإعلام والمخابرات. ومع أنه يُمكن أن تزخر نصوص الدستور المكتوب بالقيم الإنسانية والحقوق والواجبات والبديهيات، بلوغاً نحو كمالٍ بشري لم يتحقق بعد، إلا أن الثاني هو المعتمد، بحكم كونه "أكثر واقعية"، ويترجم حقيقة ما تفكر به المنظومة الحاكمة في تلك الدول. يعني هذا أن للدول قناعين، مثل الفرد، واحد نعرفه ونراه، وآخر لا نراه، لكنه يفاجئنا في كل حين.
هنا يأتي دور "الدولة العميقة"، وهي ليست مبنيةً على خرافاتٍ منصوصة منذ قرون، ولا على أبعاد ما ورائية، بل مؤسّسة على شبكة مصالح صلبة، نجحت في التماهي فيما بينها، ضمن منظومة حكمٍ تطورت على مرّ السنوات، عبر نمو اقتصاد السوق والإعلام والمصارف بشكل خاص في سنوات ما بعد الحرب الباردة (1917 ـ 1991) من جهة، وعبر إقرار قوانين تحميها في البلد الذي تعمل فيه من جهة أخرى. ويحصل أن ترسي تلك الدولة واجهةً علنية، أشبه بحملة تسويقية لإبعاد الأنظار عنها. الأمر شبيه بمشاهدة مسرحية رائعة مع كل تفاصيلها المكثفة بصرياً وصوتياً ومشهدياً، فننسى لوهلة أن هناك جيشاً كاملاً خلف الكواليس قام بغالبية العمل. لكن هذا الجيش لم يقم بما قام به لو لم يكن مستفيداً. كذلك "الدولة العميقة". أما بالنسبة إلى الواجهة غير المُعلن عنها، السرّية للمنظومة الحاكمة في كل بلد، ففيها كل ما ترغب "الدولة العميقة" في فعله "على راحتها" من دون الشعور بالذنب أو بالقلق، ورمي المسؤولية على "مجهول ما"، وما أكثرهم.
ولا يمكن تكبيد "الدولة العميقة" خسائر ما، سوى عبر فكفكة شبكة المصالح الخاصة بها، وهي تتفاوت بين دولة وأخرى. لكنّ قلّةً يحاولون القيام بذلك وينجحون، لأن الأكثرية اعتادت اتخاذ قراراتٍ تساير هذه "الدولة"، أو لا تواجهها في الحدّ الأدنى. هنا تصبح مصلحة هذه "الدولة" جزءاً من المصلحة الفردية لكل واجهةٍ في السلطة. وفي بعض الحالات، تُصبح "الدولة العميقة" قادرةً على امتلاك حصانين: سلطة ومعارضة. ويؤدي هذا التمازج دوراً في تعزيز قوتها، وإضعاف منطق مواجهتها، حتى أن وجودها بات "مسلّماً به" لدى كثر، على قاعدة أنه لا يمكن مواجهة أخطبوط متغلغل في كل مفاصل الحياة الدولتية، بل نكتفي بالمواجهة ضمن هامشٍ لا يمسّ بوجوده أو وجودنا.
بالتالي، حين تقوم الثورات عادةً، لا تنجح فقط بإسقاط ديكتاتور ما، بل حين تقضي على "الدولة العميقة"، وإلا سيتم استنساخ ألف ديكتاتور آخر، وستنجح هذه "الدولة" في إعادة إنتاج نفسها، وستزداد استشراساً. وبقدر ما تستخدم هذه "الدولة" الأدوات اللازمة، خصوصاً التقنية في عصرنا، لجعلها متقدّمة على ما عداها من أجهزةٍ في بلد ما، بقدر ما تجد نفسك تلهث خلفها غير قادر على وضع حدٍ لها. مثلاً، ما الذي جعل "الدولة العميقة" صلبة في لبنان؟ عاملان فقط: الأول، سيطرة كل من هو في السلطة والمعارضة على مفاصلٍ فيها، من التوظيف إلى المناقصات إلى السلطة السياسية. والثاني، تثبيت الاتفاق الضمني بين هؤلاء، سواء بفعل "توازن رعب ما"، أو بفعل تلاقي مصالح تبقى دائماً أكبر من خلافاتهم. وهو ما يضعنا، نحن البشر المقيمين على هذه البقعة من الأرض، أسرى مصالحهم، وغير قادرين على فعل شيء في الإطار التقليدي، كالانتخابات مثلاً. وما ينطبق على لبنان، ينطبق، بدرجاتٍ متفاوتة، على بلدان عدة. مشكلة "الدولة العميقة" أنها الأقلية القادرة على حكم الأكثرية، وفقاً للمصالح لا الإنسان، وإلا لكانت السلطة العلنية كافية.