دوستويفسكي الذي لا يموت
الأسبوع الفائت، في 11 نوفمبر / تشرين الثاني تحديدا، بلغ عمرُ الكاتب الروسيّ فيودور دوستويفسكي (1821 – 1881) مائتي عام! قرّاؤه ومريدوه، وهم بالملايين وأنا منهم، سيقولون إنه لم يشِخ ولم يفقد من ألقه أو من غواية تأثيره على أجيال متعاقبة، تجده في كل مرة، خفّاقا، نابضا، استثنائيا. فلا أحد مثله عاين وجسّ عن قرب الظلمات والدهاليز التي في النفس البشرية، عائدا منها بالسؤال الأزليّ: إذا كان الإله هو الطيبة، فلم تراه خلق الشرّ؟
على عكس من سبقوه، لم يروِ دوستويفسكي عالما كاملا مثاليا تحكمه الفضيلة، وإنما عالما تتحكّم به الخطيئة والنقص والألم والدوافع الخفية التي تحرّك الشخصيات، وهذه كلها لا بدّ وأنه عرفها في حياته المركّبة المعقّدة التي جعلته يقارب الموت، والفقر، والخوف ومعضلة الوجود الأخلاقية، والدين. وقد يجد الباحثُ في تفاصيل حياته وزمنه ما يشرح زوايا خفيّة في كتبه، ويساعد على فهمها وسيرها بشكل أفضل، ومن أهمها على الإطلاق بيوغرافيا الناقد الأدبي الأميركي جوزف فرانك، "دوستويفسكي، كاتب في زمنه"، الصادر في السبعينيات في خمسة أجزاء، قبل أن يعيد الكاتب إصدار نسخةٍ مكثّفةٍ في ألف صفحة، تُرجمت عام 2019 إلى الفرنسية. ومن مجمل الأعمال التي تناولت حياته، وهي كثيرة، يؤكد فرانك، للمرة الأولى، أن دوستويفسكي هو الوحيد من بين كبار الكتّاب الروس في النصف الأول من القرن التاسع عشر، الذي لم يكن ينتمي إلى طبقة النبلاء من ملاكي الأرض، وهو ما جعله، برأيه، الأكثر قابلية ومقدرة على تميّز الصراع ما بين الجديد والقديم في المجتمع الروسيّ.
وبالفعل، ولد فيودور في موسكو من والدين انتميا إلى الطبقة الوسطى. كان والده ميخائيل طبيبا في السلك العسكري، ووالدته ماريا ربّة منزل تهتم بأطفالها الثمانية الذين عانوا من إهمال والدهم السكّير. فيودور، الابن الثاني، أولع باكرا بقراءة كبار الكتّاب وتأثّر شابا بفريديريك فون شيللر. فقد والدته وهو في السادسة عشرة من عمره، فأرسله والده لينضم إلى مدرسة المهندسين العسكرية في سان بطرسبورغ، فلم يتأقلم وبقي وحيدا وسط شبّان يطمحون إلى السلطة. عام 1839، توفّي والده، تخرّج فيودور ملازمًا وعمل في مجال التخطيط الهندسي، إلى أن قرّر ترك السلك العسكري عام 1844 ليكرّس وقته للكتابة.
نشر دوستويفسكي روايته الأولى، "الفقراء"، عام 1846 فعرف الشهرة مباشرة وقورن بالكاتب الروسي المعروف غوغول، وهو ما أدخله الوسط الأدبي في سان بطرسبورغ من بابه الواسع، من دون أن يعني ذلك أنه نعم بحسن الاستقبال، خصوصا وأن عمليه التاليين لم يكتب لهما النجاح، وكان مظهره المهمل واكتئابه موضوعي استهزاء. على مستوى آخر، اهتمّ دوستويفسكي بحضور نقاشات بعض الناشطين السياسيين المعارضين للقيصر نيقولاي الأول، وبدأت معاناته مع نوبات صرع استمرت تعذّبه طوال حياته، ثم تمّ اعتقاله بتهمة التآمر وسُجن ونجا من الاعدام شنقا في اللحظة الأخيرة، بتحويل الإعدام إلى أربع سنوات من الأشغال الشاقة في سيبيريا، وهو ما ترك فيه كبير الأثر، إنسانا وكاتبا. إثر خروجه من السجن، أصبح جنديا وأمكنه العيش في المدينة، حيث تقرّب من النخبة، أغرم بزوجة أحد المسؤولين، وهي ماريا ديميتريفا، التي صدّته مرارا قبل أن يقترن بها بعد وفاة زوجها (1857)، وترقّى اجتماعيا فعين ضابطا وتحسّنت شروط معيشته. استأنف دوستويفسكي الكتابة، ثم قرّر العودة مع زوجته إلى سان بطرسبورغ، حيث أسّس مع شقيقه ميخائيل مجلةً لاقت نجاحا، قبل أن يتم منع صدورها بسبب مواقفها السياسية.
عام 1864، توفيت الزوجة ماريا، تبعها شقيقه، ما اضطرّه إلى تحمّل مسؤولية عائلتين، وجعله ينقطع بشكل كامل للكتابة، إلا أن وضعه المادي السيئ وتراكم ديونه وملاحقته من دائنيه، دفعته إلى الهرب إلى أوروبا حيث أفرط في لعب القمار وفي خسارة الأموال. في المقابل، كانت تلك الحقبة من أكثرها إبداعا وإنتاجا في حياته، إذ أنجز خلالها "الجريمة والعقاب" و"المقامر" (1866)، و"الأبله" (1868-1869). في ما بعد، مع تحسّن وضعه المادي قليلا، أصدر أعمالا أخرى، انتهاءً بروايته "الإخوة كارامازوف" التي سبقت وفاته في 9 فبراير/ شباط 1881، بسبب نزيفٍ في الرئة، حيث يكتب: "ما هو الجحيم؟ أصرّ على كونه العذاب الذي تولّده استحالةُ الحب".