دولة التهريب .. دولة حزب الله
قوافل من الصهاريج تعبر الحدود والمعابر السورية - اللبنانية غير الشرعية، قادمة من مرفأ بانياس السوري، محمّلة بالمازوت الذي رفعه حزب الله إلى منزلة أهم من منزلة الخبز بالنسبة للناس، وبمثابة "نصر إلهي"، فخرج الأهالي لملاقاة المازوت، المادّة السوداء السحرية، على وقع الأهازيج والزغاريد وإطلاق النار احتفاء في شوارع بعلبك، وهتافا بـ"حياة السيد" (حسن نصر الله). صهاريج تعبر بطريقة غير شرعية، ولا من يراقب ولا من يحاسب، علما أن زعيم حزب الله كان قد أعلن قبل أشهر عزمه على استقدام بواخر إيرانية محمّلة بالمحروقات إلى لبنان للتعويض عن النقص الحاصل في الأسواق المحلية. ومع ذلك، عبرت الصهاريج مظفرة في ظل صمت الدولة المطبق، وتحت أقواس النصر، فيما لم يتردّد رئيس الحكومة، نجيب ميقاتي، الذي دخل القصر الحكومي، قبل أيام، مظفرا وحائزا دعم حزب الله وثقته، في الاعتراف بأن عملية دخول الصهاريج "تشكل انتهاكا للسيادة اللبنانية"، ولكنه اكتفى، في الوقت نفسه، بالقول "أنا حزين"، وأسوأ من ذلك تنصّل من المسؤولية، مؤكّدا أن "لا علاقة للحكومة بالأمر"! فهل هذا اعترافٌ بالعجز أم أنه غض نظر عن طرفٍ لم يكن ممكنا لحكومة ميقاتي أن تبصر النور لو لم يمنح الضوء الأخضر لولادتها.. فيما رئيس الجمهورية، المؤتمن الذي أقسم يمين الحفاظ على السيادة بحسب الدستور، التزم الصمت، وكذلك فعل رئيس المجلس النيابي والنواب، وكأن الأمر لا يعنيهم.
غموض يكتنف عمليةٍ هي أقرب إلى بوليسية فولكلورية
والأطرف أن النواب، في لحظة انعقاد الجلسة النيابية للتصويت على الثقة بالحكومة، اكتشفوا أن لا كهرباء في القاعة، بسبب نقص في المازوت وتوقف المولّدات عن العمل، فأنجدهم تدخل أحد نواب حزب الله، الذي أعلن أنه اتصل بالمحطة التابعة للحزب التي أمنت على الفور المازوت الإيراني لإنارة القاعة، ولكن متحدثا باسم الحكومة نفى هذا الأمر، خوفا من أن يعتبر خرقا للعقوبات المفروضة على إيران. والأنكى أن نصر الله يمعن في التحدّي، معلنا أن حزبه قد كسر الحصار المفروض من الولايات المتحدة، علما أن لبنان غير خاضع لأي حصار أو عقوبات، فقد قدّمت واشنطن، الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، 48 مليون دولار مساعدة للجيش اللبناني، والمساعدات الإنسانية تصل من مختلف الجهات الدولية والأوروبية، كما أن مصر والأردن قد قرّرتا، أخيرا، تزويد لبنان بالكهرباء والغاز عبر خط أنابيب تغذية يمتد من مصر عبر الأردن وسورية إلى لبنان، على الرغم من العقوبات المفروضة على النظام السوري. ومما يزيد في غرابة هذا التصرّف الأشبه بالعرض المسرحي الهزلي أن نصر الله كان قد عظّم من شأن استقدام البواخر الإيرانية، محاولا تصويرها كأنها من أهم (وأشرس) المعارك البحرية التي تُخاض ضد الإمبريالية في عرض البحر الأحمر، وأكثرها جرأة وتحدّيا للعقوبات التي تفرضها أميركا على إيران، وأرعب، في الوقت نفسه، السلطة اللبنانية محذّرا من تسوّله نفسه محاولة منع البواخر الإيرانية من دخول المرافئ اللبنانية وتفريغ حمولتها. ولكن هذا التهديد الذي يمارسه نصر الله بكل أريحية، وهو أساسا يعرف أنه لن يجد من يقف في وجهه، ما هو إلا أسلوب ووسيلة يلجأ إليهما باستمرار لتعبئة جمهوره المسكين المتعلق بحبال الهواء وشحنه، وبأي خيط أملٍ بين من ينتشله من مستنقع معاناته اليومية وسراب الحلول. وعلى الرغم من كل هذه التهديدات والعنتريات والشحن الجماهيري والنفسي، فان البواخر التي أعلن أمين عام حزب الله عن إقلاعها من إيران منذ نحو شهر، وتوجّهها إلى الشواطئ اللبنانية لم يظهر لها أي أثر في المياه اللبنانية، فهل فضل نصر الله عدم استفزاز الولايات المتحدة، في وقت تسعى فيه طهران إلى إعادة إطلاق عجلة المفاوضات معها في فيينا؟ وفجأة قيل إن البواخر وصلت إلى مرفأ بانياس السوري، حيث راحت تُفرغ حمولتها في صهاريج أفاد نصر الله نفسه بأنها تقدمة من حليفه بشار الأسد، وبدأت منذ منتصف الأسبوع الماضي تعبر الحدود إلى الداخل اللبناني.
كلفت عملية التهريب المنظمة للمحروقات من لبنان إلى سورية في السنة الماضية ضعفي ما كان يتطلّبه الاستهلاك المحلي
اللافت أنه لم يُنشر أي تقرير مصوّر في أي وسيلة إعلامية، لا محلية ولا عربية أو أجنبية، عن عبور البواخر الإيرانية البحر الأحمر أو قناة السويس أو عن وصولها إلى مرفأ بانياس، ولا حتى مجرد فيديو يظهر واحدةً من هذه البواخر في عرض البحر؟! وقد علق أحد الظرفاء سليطي اللسان قائلا: "إن حزب الله يعيد شحن ما هرّبه من مادتي المازوت والبنزين إلى سورية في السنتين الأخيرتين، بعدما اشتد عليها الحصار، بموجب قانون قيصر الذي أقره الرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب...". بغض النظر عن هذا الغموض الذي يكتنف عمليةٍ هي أقرب إلى بوليسية فولكلورية، وبغض النظر عن لعبٍ بأعصاب الناس، فإن مسألة التهريب أصبحت من الموارد الأساسية التي يرتكز عليها حزب الله في مصادر تمويله، منذ اشتدّ الحصار على إيران وبدأ التمويل يشحّ. ففي وقتٍ كان النظام السوري يزوّد بهذه المواد النفطية وغيرها من المنتوجات الغذائية، وكذلك الدولار من الأسواق اللبنانية، كان هذا التهريب يشكل مصدر رزق لكثيرين من مسؤوليه ومناصريه على مدى السنتين الماضيتين، وبالأخص بعد انهيار الليرة اللبنانية والتدهور الاقتصادي والمعيشي، والانكماش الذي أصاب البلد بعد انتشار وباء كوورنا في بداية عام 2020. وكان هذا التهريب مبرمجا وممنهجا ومنظما بشكل دقيق ومدروس سياسيا وماليا ولوجستيا، وأيضا أمنيا بالاستناد إلى النفوذ الذي بات لحزب الله داخل المؤسسات الأمنية التي كان بعضها يغضّ النظر هنا وهناك. وقد كلفت عملية التهريب المنظمة للمحروقات إلى سورية خلال السنة الماضية ضعفي ما كان يتطلّبه عادة الاستهلاك المحلي، إذ تخطت الكلفة سبعة مليارات دولار في السنة بدلا من نحو أربعة مليارات. كما أن تهريب حزب الله وتجارته في المحروقات كانت مزدهرة في السوق المحلية، فقد تم ضبط آلاف الأطنان من البنزين في مخازن عائدة لمسؤولين في الحزب في الفترة التي بدأ ينقطع فيها البنزين والمازوت لدى محطّات توزيع الوقود وبيعه. ومارست هذه التجارة غير الشرعية قوى سياسية لبنانية أخرى ومراكز قوى ومهرّبون كبار من مختلف الانتماءات والحسابات والمصالح. إلا أن ما يثير الاستغراب والاستهجان أكثر فأكثر أن حزب الله ليس فقط يجاهر بما يمارس، ويجد له كل الحجج والذرائع الممكنة، وبطبيعة الحال، التفاسير الشرعية، وإنما في ما يخصّ التهريب رفعه إلى مصاف الوسائل المقدسة، إذ لم يجد أحد مشايخ الحزب حرجا في القول، من على منبر إحدى الشاشات، إن "التهريب وسيلة من وسائل العمل المقاوم"!